احتل الإصلاح الإدارى فى مصر الحديثة، مكانة كبيرة فى فكر حكام مصر ورأيها العام منذ محمد علي.مما اضطر جمال عبد الناصر يوما أن يقول: «يجب هز الجهاز الحكومى من أساسه».ولكن البيروقراطية المصرية كانت «عصية» على الإصلاح...وهو أمر نحاول أن نفك شفرته سواء من خلال البحث العلمى والمتابعة الدءوب من داخل الظاهرة. ودليلنا فى ذلك السؤال التالي: أين مكمن الداء؟
أولا: إذا ما عدنا إلى التاريخ، وتحديدا إلى محمد علي، مؤسس مصر الحديثة والنظام البيروقراطى الحديث. سوف نجد أن كل المؤرخين يجمعون على أن محمد على قد أنجز نقلة نوعية فى مسار الجهاز الإدارى بما يليق وأحلام الدولة الجديدة. فمصر قبل محمد علي، ومنذ الفراعنة، كان يحكمها «حكام وافدون». كان همهم الأول «الجباية» بأى طريقة من مصر والمصريين. وكان الجهاز الإدارى وسيلتهم. وكانت الذروة مع العثمانيين. إلا أن محمد علي، بحسب الراحل المؤرخ الكبير والمتواضع رءوف عباس قد نجح في: «أن يصيغ نظاما إداريا يتجاوز ـ بعض الشيء ـ منطق الجباية والأمن، إلى إدارة الاقتصاد وأعمال المنافع العامة، والخدمات،...،
فعمل على إنشاء ثلاثة تنظيمات إدارية كما يلي: أولا: «المجالس الاستشارية مثل: مجلس المشورة، المجلس العالي. وثانيا، الدواوين مثل: ديوان البحرية والمدارس البحرية، وديوان الزراعة، وديوان الجهادية، وديوان الجورنال، وديوان الدفترخانة(المحفوظات) ثالثا؛ المصالح مثل: مصلحة الحرير، ومصلحة البارود، ومصلحة الترسانة، ومصلحة المدابغ، ومصلحة المخابز، ومصلحة المسابك، ومصلحة المباني، ومصلحة السكر،...،إلخ...ولم يقتصر الأمر عند حد الإنشاء المادى فقط. وإنما واكب كل هذه المؤسسات أن وضعت أنظمة ولوائح حاكمة لعمل عناصر الجهاز الإدارى الجديد، أو ما عرف «بالسياستنامة»...إلا أن عائد كل ذلك لم يؤد إلى «تحسين مستوى الأداء الإدارى بالقدر الكافي»...وسبب ذلك يرجع الى أمرين: اولا: أن العناصر التى حملت عبء النظام الإدارى الجديد كانت هى ذاتها التى تدربت على ممارسة الإدارة فى ظل النظام العثمانى التقليدى القديم. ثانيا: إن بنية الجهاز الإدارى الحديث كانت غارقة فى الهرمية والمركزية المطلقة والتبعية المطلقة للحاكم...هذا عن محمد علي. فماذا عن ناصر؟
ثانيا: فى الفترة الناصرية، وبالرغم من التحولات الجذرية التى جرت فى بنية النظام السياسى المصرى والاقتصادى على التوالي. إلا ان الجهاز الإدارى والحكومى المصرى لم تطله نفس التغيرات. فظلت اساليبه وعقليته ونظمه وعلاقته مع الجماهير كما هي. والأخطر استعادة ممارسات لا تتناسب ومجتمع الكفاية والعدل من عينة تقاضى مبالغ تحت مسميات متنوعة. ونشير هنا إلى الفيلم العبقرى «مراتى مدير عام» الذى جاء على لسان بطلته:«إزاى مطلوب مننا نبنى مجتمع جديد وعقليتنا الإدارية قديمة»...وهو ما دفع «ناصر» إلى قول قولته عن ضرورة «هز» الجهاز الحكومي. بل وخصص مؤتمرا يبحث الأمر فى سنة 1967 أو ما عرف بمؤتمر القطاع العام...إلا أن كل الحلول التى أتبعت فى «هز» أو إصلاح الإدارة المصرية لم تنجح، لسببين هما: الأول: أنها جاءت فوقية. الثاني: لجأت إلى الروحية والذهنية الرقابية والأمنية. حيث تم فرض أساليب متزايدة من الرقابة عليها. دون أن تحقق اى إصلاح.
والأهم ـ كما أشرنا الأسبوع الماضى إلى أنه فى مرحلة يوليو المضادة ليوليو ناصر (الثورية/الاشتراكية/الرأسمالية الدولة، أيا كان التعريف أو التوصيف)،أصبحت «البيروقراطية»، لأسباب عديدة، قوة اجتماعية لها تقاطعات ومصالح ـمركبة ـ مع العناصر الاقتصادية التى كونت توجهات الحكم على مدى عقود(بدأ ذلك بعد إطلاق قانون الانفتاح 1974. ما يجعلها تصنف بالرأسمالية البيروقراطية...حيث إنه بمرور الزمن «تتمترس» البيروقراطية وبخاصة فى مستواها/شريحتها/طبقتها العليا فى مواجهة كل ما يهدد مصالحها. وفى نفس الوقت، فإن اختزال الأمر فى مسائل صغرى تفصيليةMinor لن يؤدى إلى الإصلاح المنشود أو حتى سيكون «جزئيا» بحسب الأستاذة أمينة شفيق، وإنما عصى.
الخلاصة، لن يحالفنا النجاح فى إنجاز «هزة» فى جهازنا الإدارى أو البيروقراطي، مالم نأخذ فى اعتبارنا ما يلي: أولا: دراسة التحولات التى طرأت على بنية البيروقراطية المصرية، (وهنا أشير إلى دراسة مورو بيرجر الرائدة التى أجراها فى الخمسينيات.
كذلك دراسة الأستاذ السيد يسين والدكتور على ليلة حول الإدارة المصرية فى الثمانينيات). نحن بحاجة إلى دراسة قومية تحليلية دقيقة حول طبيعة التحولات ودلالاتها وتأثيرها على تطلعاتنا التنموية. ثانيا: هل مجرد اصدار قانون سوف يغير من الأمر شيئا والمنوط بهم تنفيذه هم من يصدر القانون ضدهم؟ ثالثا: أظن أن التاريخ يؤكد فشل إجراء أية إصلاحات فوقية خاصة إذا ما ركزت فقط على التفاصيل والإجراءات. فالموضوع أعقد كثيرا من «الأجر الوظيفى والمكمل» ولجنة الموارد البشرية«،...،إلخ، على أهمية ما سبق.
ومن ثم لابد من الأخذ بما يعرف بالتغيير من «أسفل» فى موضوع «الإصلاح الإداري»...وبهذا ينسجم الهدف الذى لا نختلف عليه ألا وهو: الإصلاح الإداري، مع مفهوم «الخدمة المدنية»، كما يستقيم مع التغيير العام المطلوب من قبل المواطنين. ما يحتاج إلى حديث مفصل...ونتابع...