كان عائدا لتوه من أول زيارة لآسيا، ولم ينتظر حتى نلتقي، حيث هاتفنى كى يكلمنى عن التقدم الذى حققته الدول التى زارها، وعن المجالات التى اقتحمتها ووضعتها فى تصنيف متقدم فى جدول دول العالم…كان حديثه مفعما بالمشاعر وبالحقائق، إعجابا وتقديرا، من جهة، كما كان متسائلا وباحثا عن سبب هذا التقدم، من جهة اخري.
تحاورنا وتواصلنا لاحقا، ووجدنا من خلال بحثنا «الدءوب» أن الإجابة عن السؤال «المزمن»: لماذا تقدم الآخرون؟…إنه لا تقدم بغير الأخذ بما يمكن أن نطلق عليه: «اقتصاد المعرفة»؛ أو «حزمة التقدم»؛…التى تربط بين الصناعة والزراعة والتكنولوجيات المتقدمة…على أن تكون مكونات الحزمة فى حالة متداخلة ومركبة. وكما كتبنا مرة، فالزراعة لابد من أن تكون وثيقة الصلة بالصناعة وكلاهما مرتبط بجديد التكنولوجيا…فالزراعة بمعناها المتقدم تبدأ من المعمل الرقمى وبوضع تصورات تطويرها فى عالم متخيل يتوقع النتائج المختلفة وكيف تكون فى وقت وجيز، بتأمين كل ما تحتاجه المعالجة الزراعية. ثم ننتقل إلى الواقع ومن خلال تقنيات حديثة يتم تطبيق ما تمت ممارسته معمليا. ويتم الربط بين الانتاج الزراعى والاحتياجات الصناعية المتنوعة، والتى مهما تكن ثقيلة وصلبة، إلا أنها تقوم وتدار على أسس تقنية رقمية.
هذا هو ما يعرف «باقتصاد المعرفة»؛ وهو الاقتصاد الذى يتجاوز الاقتصاد الكلاسيكى بالآته الثقيلة، وتجاربه المعملية الفردية التى تنتظر النتائج وتكون خاضعة للزمن أو ما يمكن تسميته بنموذج «المخترع»، وخطوط الانتاج النمطية وإدارته الهرمية التقليدية…اقتصاد ينطلق من فرق علمية منطلقة ومغامرة تخوض فى شتى المساحات المعرفية بحرية، حيث يتفاعل فيها العقل الإنسانى مع العقل الإلكتروني/ الرقمى لتكوين مجتمع المعرفة…وهو ما يحتاج إلى تجديد مؤسسى فى مجال الإدارة، يعمل على «التشبيك» بين الكوادر البشرية من خلال بنية تحتية معلوماتية. فلا تعود هناك حاجة إلى أن تهدر ملايين الأوراق طلبا لتوقيعات إدارية من خلال رحلات مكوكية بين إدارات المؤسسة الواحدة أو بين المؤسسات والهيئات والوزارات المختلفة، حيث يتم الربط بين الجميع من خلال شبكة وطنية رقمية واحدة، يتم فيها التبادل المعرفى والوثائقى فى اللحظة نفسها، وتتطور البنى المؤسسية واقعيا من مؤسسات هرمية سلطوية إلى بنى شبكية مسموح فيها بإبداع أفرادها، شريطة أن يكون كل فرد فى موقعه الصحيح ومدربا ومؤهلا للمهمة المكلف بها…هذا هو السياق الذى يتحقق فيه الإبداع ومن ثم الانطلاق والتقدم، إنه اقتصاد المعرفة…هكذا تقدمت الدول التى زارها صديقي…كوريا الجنوبية وماليزيا ومن قبلهما اليابان…كذلك كل الدول التى خبرت التقدم…
ووصلا لما سبق، يمكن القول، وبشكل حاسم، إنه لم تتقدم دولة إلا بهذه الحزمة…ونشير هنا بالإضافة إلى الدول الآسيوية المذكورة: الهند، وفيتنام. كما يمكن أن نذكر من الدول اللاتينية ما يلي: البرازيل، وتشيلي، والاكوادور وكوستاريكا. ومن الدول الأوراسية نذكر كلا من: روسيا وتركيا. وأخيرا نشير إلى جنوب إفريقيا من القارة الإفريقية…حيث بدأت كل هذه الدول الأخذ بأمرين وصفتهما بما يلي:
«الشريك التنموي»؛ المناسب التعرف على عالم التقنيات الحديثة، من خلال الشركات المتقدمة.
«التحول المركب»؛ أو خوض كل المجالات فى الوقت نفسه. أو التنمية متعددة المستويات…أى الأخذ بكل أبعاد التقدم فى الوقت نفسه.. وهذا يعنى أن تتجدد منظومات: التعليم، والثقافة، والإعلام،…بحيث تقوم القوة الناعمة «بالتخديم» على القوة الصلبة من: صناعة/زراعة/تكنولوجيا،…بهذا المعنى لم يعد هناك مجال للحديث عن السياحة وحدها أو بيع الموارد المحدودة أو تخصيص الأراضى الذى يقع تحت الاقتصاد الريعي…وهو اقتصاد لا يقيم بلدانا أو يطلق تقدما.
فى هذا السياق، وجدت صديقى يحدثنى عن ماليزيا، تفصيلا. وأوجز هنا ما قاله: بالفعل وتأكيدا لما قلته، فلقد أدركت ماليزيا أن التقدم يعنى خوض التجربة التصنيعية بمستوياتها. وأن اقتصاد القرن الجديد (الـ21)، يختلف تماما عن اقتصاد القرنين الـ19 وال20. اقتصاد القرن الـ21 هو اقتصاد المعرفة…ومن ثم لابد من اقتحام المجالات الاقتصادية عالية التقانة High-Tech)- وعليه ـ يقول صديقى سوف نجد ماليزيا كيف حققت تقدما مؤكدا من خلال «الحزمة المركبة» التى بدأت: أولا؛ بصناعات قابلة للتصدير تتسم بأنها تتكون من مكونات الكترونية، وأن هذه الصناعات كانت من نوعية قادرة على استيعاب العمالة الكثيفة، من جهة. ومتنوعة المجالات التقنية المتقدمة، من جهة اخري. وعرفت هذه الصناعات باسم «مشروع الوسائط المعلوماتية المتعددة»…وثانيا، انطلقت منذ الثمانينيات، فى عملية تصنيع ثقيل. ثالثا، ومع بداية القرن الجديد انفتحت على تكتلات اقتصادية إقليمية. ونتج عن ذلك أن ماليزيا أصبحت قوة اقتصادية معتبرة…هكذا أصبحت ماليزيا دولة «مكتملة»(بحسب الدكتور محمود عبد الفضيل)…ويتوقع لماليزيا بحلول2020 أن تصبح مجتمعا معرفيا رقميا تكنولوجيا بالكامل…لذا لا تقدم حقيقيا خارج صيغة اقتصاد المعرفة…