مرت الأحزاب السياسية فى مصر بأربع محطات رئيسية. الأولى كانت فى 1907، والثانية فى 1919، ثم ألغيت الحياة الحزبية فى 1953 وعادت بقرار سلطوى من خلال المنابر فى 1975والتى سرعان ما تحولت إلى أحزاب فى العام التالي، مؤسسة للمحطة الثالثة.
أما المحطة الرابعة فهى التى انطلقت عقب حراك 25 يناير وأسفرت عن ما يقرب من تأسيس 100 حزبا.
وتميزت كل محطة من هذه المحطات بسمات معينة حاولنا رصدها فى مقالنا السابق. وتوقفنا مطولا عند المحطة الرابعة/ الراهنة حيث أشرنا إلى ثلاثة عناصر تميزها. الأول تتعلق بالتحول العميق الذى طرأ على البيئة السياسية والذى لم تستطع أن تواكبه الأحزاب. والثانى الذى يتعلق بعدم قدرة الأحزاب على استيعاب الكتلة السياسية الجديدة البازغة المتحررة من حسابات الماضى وتحيزاته وصفقاته. أما العنصر الثالث والأخير والذى يتعلق بالبيئة التشريعية المتعلقة بقانون الانتخاب الحالى حتى الآن ـ فأظنه لا يعبر عن طبيعة التحولات التى شهدتها ـ ولم تزل ـ مصر.
واستكمالا لما سبق أود أن أركز على ما أطلق عليه الأذرع السياسية للكيانات المالية والدينية، كإحدى الإشكاليات المعيقة للتحول الديمقراطى المأمول… لماذا؟ يرجع ذلك لثلاثة أسباب الأول: يتعلق بالصيغة الحزبية المتوارثة تاريخيا. والثاني: يخص توجهات وبنى الأحزاب بعد 25 يناير. والثالث: يتمثل فى طبيعة العلاقة بين هذه الأحزاب…كيف؟
أولا: المعادلة الحزبية المتوارثة تاريخيا: يمكن حصر المعادلة الحزبية التى تم الدفع بها منذ 1984 إلى 2010 فى العناصر التالية: “أقلية ثروية وتيار ديني، وسلطة، وأغلبية منصرفة”. وكانت العملية/ اللعبة السياسية تقوم على ما يمكن أن نطلق عليه: “ديمقراطية القلة”، من حيث الكم والكيف. فلقد كان التنافس الأساسى فى هذه العملية/ اللعبة بين طرفين هما: أصحاب الثروة وتيار الإسلام السياسي. وإذا ما راجعنا كل الانتخابات التى نظمت منذ 1984 إلى 2010 نجدها تتم بين هذين الطرفين. حيث الطرف الأول يخوض الانتخابات من خلال حزب السلطة. والطرف الثانى فكان يخوضها، أولا محمولا من خلال أحد الأحزاب الشرعية (الوفد فى 1984 والعمل فى انتخابات 1987 و1990). وثانيا: منفردا فى انتخابات 1995 و2000 و2005 و2010. وكانت الانتخابات تجرى بكتلة تصويتية لا تزيد عن 25% فى أحسن الأحوال تقل فى المدن إلى 10%.
ثانيا: توجهات وبنى الأحزاب بعد 25 يناير: كان من المفترض أن تستجيب الأحزاب السياسية القديمة والجديدة للتحولات التى جرت بعد 25 يناير، وذلك بممارسة سلوكا سياسيا يعكس تجسيدا حقيقيا للتيارات الفكرية والسياسية والمصالح الطبقية والاجتماعية. إلا ان الأحزاب السياسية التى تأسست ـ بحسب ما كتبنا مبكرا ـ كانت فى واقع الأمر “أذرع سياسية لكل من المال والدين”. وجرت معها الأحزاب القديمة ـ بدرجة أو أخرى إلى أن تكون ملحقة بهذه الأذرع السياسية. وهو ما جدد المعادلة السياسية التى سادت تاريخيا فى ظل الحزب الحاكم الذى أدار الحياة السياسية لعقود. وبدلا من استثمار حماس الكتلة السياسية الجديدة الصاعدة واستيعابها كقاعدة اجتماعية لها. وهو ما تجلت بعض من إرهاصاته فى عدد من الدوائر الانتخابية التى شهدت تزايدا كميا ونوعيا على العملية السياسية وفق رؤى سياسية تتجاوز “الثروى والديني”…
ثالثا: طبيعة المساحة السياسية الراهنة:جاء تمرد 30 يونيو ليجدد التحالف الوطنى الواسع لكل الوان الطيف المصري. هذا التحالف الذى اصطفت عناصره المتنوعة فى مواجهة الاستبداد السياسي. وها هو يصطف مرة أخرى فى مواجهة الاستبداد الديني. إلا أنه سرعان ما تفكك هذا التحالف لصالح مساحة سياسية يتجاذبها من جهة الأذرع السياسية لأصحاب المال والثروة الذين يتحركون بشكل غير مسبوق. ومن جهة أخرى ومن خلال ترقب حذر أحزابا سياسية هى فى الواقع “أذرع لكيانات دينية”. وما بينهما تحاول الأحزاب والقوى السياسية أن تقيم تحالفات على أساس سياسي. إلا أن الواقع يقول ان هذه التحالفات متعثرة لأنها لا تستطيع أن تقيم تحالفات مع المال والدين بصورة مطلقة. وفى نفس الوقت لم تفلح فى أن تستعيد الكتلة السياسية المتجاوزة المعادلة السياسية التاريخية. لذا نجدها تلجأ إلى الجماعات الأولية الدينية والعشائرية والعائلية…فما محصلة كل ذلك؟
المحصلة يبدو أننا نعيد انتاج حالة تم تجاوزها، وتتعارض مع كل فرص التحول الديمقراطى المأمول. وخاصة ـ مرة أخرى أن قانون الانتخابات سوف يسهم فى عملية اعادة الانتاج هذه والتى كان عنوانها ولزمن: “المال والدين”…
ونحن ليس أمامنا إلا ان نستعيد الكتلة السياسية الجديدة التى تتحرك فى المجالين السياسى والمدنى على أساس سياسى ومجتمعى كى تنهض بالأحزاب القائمة أو الجديدة على أساس المصلحة والطبقة والفئة النوعية،…،إلخ. وهذا يعنى عدم القبول بالأذرع السياسية للدين والمال لأنها ليست أحزابا ولن تسهم فى تطور العملية الديمقراطية…فثنائية المال والدين هى ثنائية استبدادية لا تحتاج إلى “ممارس سياسي” وإنما إلى ممارس “مساهم”(بالمعنى المالي) أو مجاهد”(بالمعنى الديني)…ونتابع…