الإصلاح الدينى (1): قراءة سياسية لتأسيس عقلى جديد...

بعد يومين، تحتفل ألمانيا ومعها العالم بمرور خمسة قرون على ما قام به «مارتن لوثر» من إعلانه موقفا مغايرا وجذريا عن مسار الفكر الدينى .

ففى 31 أكتوبر من عام 1517، علق مارتن لوثر إعلانا كبيرا على بوابة كنيسة القلعة فى فيتنبرج بألمانيا. عرف هذا الإعلان باسم «قضايا صكوك الغفران الـ95». وبعيدا عن القضايا الدينية التى أثارها الإعلان حول التوبة الحق والجهاد الإنسانى من أجل بلوغها على قاعدة المحبة، وغيرها من قضايا... فإن هذا الإعلان كان بداية انطلاق حوار كبير تجاوز «اللاهوت»

إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فما بدأ دينيا فجر مناقشات عميقة حول الإنسان وحريته وعلاقته بالسلطة: أى سلطة. وكان الحدث ــ وبحسب أحد الباحثين المعاصرين ـ الذين يعيدون قراءة الحدث بمناسبة مرور خمسة قرون عليه من جوانب متنوعة سياسية وثقافية وسوسيولوجية ـ هو «انعطاف تاريخى لبدء انطلاق الحداثة»...

فما جرؤ على فعله لوثر هو ذروة «رحلة نضالية تاريخية» فى سياق إقطاعى شديد القسوة والظلم على مواطنى هذا العصر، بدأت منذ القرن الرابع عشر ـ بحسب جورج سباين فى مرجعه العمدة تاريخ الفكر السياسي، الجزء الثالث ـ عندما بالغت المؤسسة الدينية فى «استنزاف الإيرادات الكنسية الألمانية من أجل روما، وتفضيل المطارنة الأجانب لقيادة الكنيسة الألمانية، وانتشار الفساد، وبيع صكوك الغفران للمؤمنين». بالإضافة إلى اكتناز المال وتأسيس إقطاعيات كنسية والتدخل فى الشأن السياسى وتوظيف السلطة الزمنية وفرض ما عُرف بالطاعة العمياء...

بيد أن الإعلان الذى صيغ بإتقان من قبل «لوثر» وبلور فيه أزمة التحكم فى مصائر البشر، عبر صكوك الغفران، كان بمثابة نقل المعركة من دائرة الهمس والضيق المكبوت إلى دائرة العلن والنقاش الفكرى العام. فالثابت أن ما طرحه «لوثر» من براهين وحجج فى وثيقته، وفى كتاباته اللاحقة، كانت تقع جميعها على الأرضية الدينية اللاهوتية. إلا أن الواقع الاجتماعى كان قد بلغ حالة من السوء غير محتملة. ما جعل من النص اللوثرى الاحتجاجي، حول قضية دينية بالأساس، يجد حضورا لدى الناس. ذلك لأن الأمر بات يتعلق بإشكالية غير مقبولة على المستويات: الروحية والأخلاقية والإنسانية هى «تجارة الغفران»؛ـ بحسب كوينتين سكنر، المؤرخ المعتبر بجامعة كامبريدج، صاحب المؤلف المرجعي: أسس الفكر السياسى الحديث بقسميه المعنونين: عصر النهضة وعصر الإصلاح الدينى إنها التجارة التى كشفت عن إشكاليات مؤلمة تمس الانسان والمجتمع الأوروبى فى حياتهم اليومية. وما فاقم الاحساس بهذه الإشكاليات هو أن أوروبا لم تكن فى أحسن حالاتها فى القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر. فلقد كانت أوروبا تموج بالكثير من االقلاقل والاضطرابات، علامة لبداية انحدار ثقافة العصر الوسيط. حيث طال الانحدار كافة المؤسسات والكيانات آنذاك. إلا أن الظاهرة الأخطر والأبرز فى هذه الفترة هو ذلك التداخل بين السياسة والدين أو بالأحرى «تدخل رجال الدين فى السياسة أو تدخل السلطة الزمنية فى الدين»، وقد كان هذا التداخل: بتحالفاته حينا، وصراعاته حينا أخري، أى فى الحالتين، على حساب الإنسان. ما كانت له تداعيات كثيرة على أرض الواقع منها: الاستبداد، والعبودية والظلم، وقهر حرية الفرد وحقوقه وازدراء العلم والفن. والغاء العقل.

وعليه، كان للإصلاح الدينى قبوله الاجتماعى فى أوروبا. أو «احتياج موضوعي» له. فبالرغم من تراجع بعض الإصلاحيين عن مواقفهم الإصلاحية لاحقا أو تشتتهم بين المحافظة والليبرالية (النسبية بالطبع). وتراوح تحيزاتهم بين النبلاء والقوى السياسية البازغة والسلطة الملكية. إلا أن «الإصلاح الديني» دخل فى معارك متنوعة فى إطار الديناميكية المجتمعية التى انطلقت من خلال صراعات تمحورت فى بزوغ حق المواطنة على أرض الواقع... وهو أمر يعكس العلاقة الشرطية والجدلية بين الإصلاح الدينى وبين تفاعلات الواقع الاجتماعى بأبعاده ومكوناته.

الخلاصة، إن ما بدأ «كجدل لاهوتي» تحول إلى نقاش مجتمعى عام حول الحريات الفردية. وقبل ذلك انطلاق عملية معقدة من «إعمال العقل»، أولا فى تفسيرات النصوص الدينية، وثانيا حول الواقع والأوضاع. وثالثا فتح أفق لعقلنة الحياة اليومية. وحق الإنسان أن يحدد بإرادته الحرة ومعطيات عقلية حدود الطاعة، وإمكانية التمرد من أجل وضع قواعد جديدة للعلاقة بين الحاكم والمحكومين جوهرها المواطنة... لذا لا يمكن ـ بحسب كثير من الباحثين المعاصرين ـ من التعاطى مع الإصلاح الدينى باعتباره شأنا دينيا خالصا. نعم يحمل وجها لاهوتيا أثار إشكاليات عقدية مذهبية. إلا أنه يحمل وجها آخر سياسيا واجتماعيا وثقافيا كان له دوره فى تغيير شكل أوروبا والإنسانية...

وبعيدا عن الجانب اللاهوتى التخصصي، فإن الإصلاح فى وجهه المركب الآخر يعد «نقلة نوعية فى مسار العقل الإنساني. ويمكن القول إنه تأسيس عقلى جديد عناصره: الحرية والإبداع والنضال من أجل الحقوق»...

ويبقى السؤال هل الإصلاح عمل فردى أم عملية مجتمعية؟...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern