الأزمة الأمريكية ومستقبل الجمهورية الرابعة

من الخطأ التعامل مع الأزمة المالية الأمريكية على أنها مجرد أزمة اقتصادية فقط يمكن أن تحل بإجراءات ذات طابع فنى فيعود كل شئ على ما كان عليه.. فالأزمة الحالية هى نتاج رؤى وخيارات وتحيزات أخذ بها التيار المحافظ ببعديه السياسى والدينى.. وهو التيار الذى أسس الجمهورية الرابعة فى أمريكا… وقبل أن نسترسل, نوضح ماذا نعنى بالجمهوريةالرابعة.


يعتبر المؤرخون الذين تناولوا تاريخ النظام السياسى للولايات المتحدة الأمريكية, منذ التأسيس وحتى الآن, أن هذا النظام قد مر بأربع مراحل رئيسية.. ولأن كل مرحلة من هذه المراحل كانت تعد بمثابة نقلة نوعية عما سبقتها.. فإن المؤرخين كانوا يصفون كل مرحلة بأنها ميلاد جديد للجمهورية الأمريكية.. وعليه عرفت كل مرحلة فى الأدبيات السياسية الأمريكية على التوالى بمايلى: الجمهورية الأولى, والجمهورية الثانية, والجمهورية الثالثة, والجمهورية الرابعة.. هذه النقلات كانت فى الأساس تعبيرا عن التحولات الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية التى كانت تمس المناطق المختلفة فى الداخل الأمريكى والذى ناردا مانهتم به.


قامت الجمهورية الأولى مع تأسيس أمريكا وانهارت مع الحرب الأهلية التى عرفتها أمريكا بين الولايات الشمالية والجنوبية.. ثم استطاع إبرام لينكولن بإنجازاته أن يؤسس للجمهورية الثانية والتى ظلت مستمرة مع تعاقب الإدارات الأمريكية المختلفة حتى تعرضت أمريكا إلى ما يعرف تاريخيا بمرحلة الركود الاقتصادى الكبير (1929)- وهى الحالة التى تتشابه لما تتعرض له أمريكا والعالم الآن – أعتبر هذا الركود نهاية لمرحلة الجمهورية الثانية.. ولم تبدأ الجمهورية الثالثة إلا بعد أن استطاع فرانكلين روزفلت الذى تولى رئاسة أمريكا 1932 أن يواجه الأزمة الاقتصادية الأمريكية بما عرف بسياسة الصفقة الجديدة وهى السياسة التى أهلت روزفلت أن يعاد انتخابه لمرات ثلاث, كسرا للنص الدستورى الذى لايجيز التجديد للرئيس إلا لدورة واحدة فقط.


ويؤكد المحللون أن هذه الجمهورية الثالثة قد ظلت مستمرة خلال عقدى الستينيات والسبعينيات اللذين شهدا حركة الحقوق المدنية والمرأة والمهمشين, كذلك التغير فى النظام العالمى المالى والترويج الأمريكى للديمقراطية وحقوق الإنسان.
وأذعتبر وصول ريجان إلى رئاسة أمريكا (1980-1988) نقطة فارقة فى مسيرة النظام السياسى الأمريكى معلنة ميلاد المرحلة الرابعة من مسيرة النظام السياسى الأمريكى أو الجمهورية الرابعة, فالاتجاه المحافظ الذى كان يمثله والذى كان تاريخيا على يمين الليبرالية السياسية التاريخية الأمريكية بات فى قلب السلطة السياسية. فلقد قام المحافظون المعادون للقيم السياسية لمؤسسى عصر الصفقة الجديدة من الليبراليين بالاستيلاء على الجمهورية الثالثة التى كانت تدعو إلى إعادة توزيع الدخل بين الطبقات والمناطق ومراعاة البعد الاجتماعى ومحاولة تجاوز التمييز العرقى واللونى.


وتأكدت سطوة التيار المحافظ أكثر من خلال إدارة بوش الابن الذى كان تعبيرا للمحافظين المتشددين بجناحيهما السياسى (المحافظون الجدد) والدينى (اليمين الدينى الجديد) وهو ما عالجناه فى كتاب الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة” والذى انحاز كليا للأثرياء وللرأسمالية النفطية وللقطاع المالى ولتكنولوجيا السلاح ومن ثم التوسع العسكرى..الخ. وفى واقع الأمر إن تحولا نوعيا قدحدث للنخبة الأمريكية الحاكمة, بحسب تحليل دقيق ورد فى كتاب “حكم زمريكا” فالنخبةالليبرالية التى حكمت على مدى الأربعينيات والخمسينيات والستينياتكانت تحكمها قيم تراعى الحقوق المدنية والبعد الاجتماعى من إصلاحات تأمينية واقتصاد يعود بالخير على الجميع (قيم الصفقة الجديدة الروزفلتية) والمجتمع الجديد التى طرحت فى الستينيات),حل محلها نخبة رجال الأعمال المتحالفة مع المحافظين الدينيين تدعمها المدنية النوعية, فلقد انقلبوا على كل الإجراءات التحديثية التى حدثت فى الجمهورية الثالثة من إعادة توزيع الدخل بما يفيد الطبقة العاملة والسماح بالأخذ بآلية التفاوض كوسيلة مدنية للحصول على الحقوق, وجعل الصناعة مركزية فى كل مكان من الولايات الأمريكية, وسن القوانين ووضع البرامج الخاصة بالتأمين الاجتماعى والصحى, وأمور أخرى كثيرة, فماذا كانت النتيجة؟


إن التحالف الذى تم بين: الرأسمالية المالية النخبوية والمحافظة الدينية, قد انقلب على الجمهورية الثالثة وصب جهده بالأساس لمصلحة من يمثلونهم. فلقد كان التشريع الاقتصادى الأول فى عهد بوش الابن خاصا بالإعفاءات الضريبية للأغنياء, كما اعتمد على دعم المنظمات الخيرية الإغاثية على حساب التنموية. وقلص الاعتمادات المخصصة للبنية التحتية خاصة فى المناطق الفقيرة والتى تكتظ بأعراق غير بيضاء, وتم تجميد مشروع عملاق يتكلف 14 مليار دولار لتدعيم السدود المتهالكة فى لويزيانا, وتم اقتطاع الكثير من المال المخصص للتحكم فى الفياضانات فى مشروعات كانت تنفذ بالفعل. وبدلا من أن يفرض بوش إجراءات تسعيرية طارئة على أسعار الوقود طلب من الأمريكين الاقتصاد فى استهلاكه, وكان الأحرى به تقليص الإعفاءات الضرائبية التى اكتسبها منه شركات البترول. ويشار إلى فضيحة شركتى إنرون – هالبيرتون النفطيتين, وأخيرا الأزمة المالية التى وصفت بالأيام السوداء وجعلت من أمريكا بيتا ايلا للسقوط (إذا استعرنا اسم مسرحية تينسى ويليامز الأخيرة) فالفقراء فى أمريكا يقتربون من 40 مليون فقير, بالإضافة إلى ما تتعرض له الشرائح الوسطى من إحالة إلى التقاعد. هذا هو الوضع الذى حل بأمريكا جراء التحالف المحافظ: السياسى الدينى الذى يقود أمريكا منذ سنة 1980.


وعندما رفع أوباما شعار “حان وقت التغيير”, كان يعبر عن كل المتضررين من مشروع الجمهورية الرابعة. فاعتنى بتحليل الواقع الاقتصادى والاجتماعى الأمريكى. وطالب الأمريكيين وبخاصة الأجيال الجديدة والشرائح الوسطى أن: “يتوحدوا فى مواجهة اقتصاد يتهاوى, ورعاية صحية تعانى أزمة حادة, مشكلات ليست سوداء أو بيضاء ولا لاتينية أو أسيوية, مشكلات نواجهها كلنا”.
وطالب الطبقة العمالية ألا ينسيها تدينها المفرط واجباتها فى طلب الحقوق وألا تهرب من مواجهة الواقع السياسى.


وكان هذا المشروع فى الواقع محاولة لتأسيس الجمهورية الخامسة التى تستكمل ما تحقق فى الجمهورية الثالثة. ويؤكد ما سبق محاولة الفريق الثانى أن يتحرر قليلا من تراث الجمهورية الرابعة وأن يتعامل التيار المحافظ كما تعامل مع إدارة كلينتون الذى عمل فى ظل القواعد التى وضعها التيار المحافظ لتستمر هذه الجمهورية. كذلك نلاحظ بعض الخلل والارتباك فى داخل الكتل التصويتية. لذا فمن غير المستغرب أن ترى كيف يتم حصار أوباما. وكيف لم تزل تزدهر بعد أفكار المحافظين الجدد الذين لن يستسلموا بسهولة.
فى كل الأحوال فانه مع تفاقم الأزمة حتى ولو لم تتأسس الجمهورية الخامسة فإن استمرار الجمهورية الرابعة لن يكون بنفس القواعد. إنه صراع بين مشروعين فى الداخل الأمريكى.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern