الإصلاح الثقافى.. رؤية وتكوين وخرائط معرفية

منذ أسابيع أطلق الدكتور على الدين هلال دعوته للإصلاح الثقافى, باعتباره عنصرا أساسيا لأى مشروع للنهضة الذى لايستقيم بالإصلاح الاقتصادى والسياسى فقط وإنما بالجتماعى والثقافى. واتفق مع ما طرح من أفكار , وأود أن أشارك فى الحوار بالتأكيد على بعض الأمور.
تمثل الثقافة لأى جماعة بشرية أهمية قصوى حيث تعكس مجموعة من العناصر المتفاعلة.وتضم هذه العناصر: العقل وكيف يفكر, وكيف يقدم الحلول والتصورات المبتكرة, وإلى أى حد تتطور قدراته الإبداعية فى المجالات العلمية والفكرية والأدبية.

وكيف يناقش القضايا والهموم ويواجه التحديات بمنهجية, وما هى حالة الذوق العام, كذلك ماهى قدرة القيم الروحية على التعامل مع الواقع. والثقافة بهذا المعنى تتجاوز ما هو شائع عنها بأنها حشد الذهن بالمعلومات إلى “صقل” وتهذيب الذهن والنفس والذوق وتنميتهم, وتكون أساسية فى عملية التطور الإنسانى حيث تصبح عملية مستمرة وممتدة من الرعاية والإعداد للعقل البشرى والروح البشرية.


وتزداد أهمية الثقافة فى عصرنا هذا, فى قدرتها بما تضم من عناصر على التعاطى مع زمن يمكن أن نعرفه بأنه زمن الثورات المتعددة: ثورة الاتصالات, وثورة الهندسة الوراثية, وثورة المعرفة, وثورة التكنولوجيا, وثورة العوالم الافتراضية, الأمر الذى جعلها مؤثرة وحاسمة فى الفكر والوجدان, قسرا أو اختيارا, خاصة أن هذه الثورات المتزامنة تنتج منظومة قيمية ثقافية مركبة, تحتاج منا إلى التفاعل بندية مع كل ماهو جديد. بيد أن حاضر الشأن الثقافى فى مصر مقيد بنسبة أمية أبجدية تقترب من 35%, ونظام تعليمى تلقينى, وشيوع لقيم الخرافة والدجل والشعوذة, الأمر الذى لايتيح إمكانية التعاطى العادل مع مستجدات العصر. وهو مايعنى أحد أمرين: إما الانغلاق أو الأخذ بأشكال التقدم من دون الجوهر, وذلك لعدم قدرة الذات الثقافية على مجاراة “تضاعف المعرفة” غير المسبوق فى تاريخ البشرية و”التجدد التكنولوجى” المطرد, ومن ثم التعاطى الإيجابى معهما, ففى أحسن الأحوال نجدقبولا للجديد كمنتج مادى من دون القيم الحاكمة له – الإيجابى منها – وعليه نجد من يتعامل مع الحاسوب وفى نفس الوقت يعلق تميمة تحميه من “العين”, أو يستخدمه لقراءة الطالع. ولا نجد أحدا يقترب من قيم ثقافية إيجابية مثل قيم الوقت والعقلانية والتخطيط والتنظيم والاستعداد النفسى لأهمية التغيير والتسلح برؤى ديناميكية لواقع دائم التجدد, وتصبح غاية استخدام التقنيات الحديثة تحميل الرنات واللوجوهات والأغانى, واستهلاك الوقت فى الألعاب.


ومن ثم فإن الحديث عن الإصلاح الثقافى يصبح ضرورة قصوى ولازمة من أجل مستقبل وطننا وأتصوره يتكون من ثلاثة عناصر وذلك كما يلى: “الرؤية” و “التكوين” و “خرائط معرفية”.
الرؤية وأقصد بها أن تكون غاية الثقافة هى “تمكين” الإنسان من أن يبلور نظرة للوجود والحياة والمجتمع, أو رؤية العالم – كما يقول الفلاسفة – من خلال فهم ما وراء الظواهر, والبحث عن الأسباب, وتبنى ما يمكن تسميته ” بثقافة التساؤل”, كبديل عن ثقافة الإجابات الجاهزة, وامتلاك القدرات الذاتية على تحرير البناء القيمى الثقافى من كل ما يعوق التقدم من قيم سلبية وهابطة تصب فى اتجاه العدمية والبلادة والانصرافوالاستهلاك.
والتكوين, واقصد به أن التمكين الذى أشرنا إليه يحتاج إلى تكوين ثقافى منظم لايقف عند توفير المعلومات وإنما كيف يمكن تناولها وتحليلها وهو مايستلزم توفير منهج علمى يعين المرء على الملاحظة والتخيل والتربيط والاستنتاج والابتكار. والتكوين الثقافى يقوم على عدد من المحاور التى تتكامل فيما بينها وتفر حدا أدنى من موسوعية المعرفة اللزمة فى هذا العصر وتتكون محاور التكوين الثقافى من ستة محاور وذلك كما يلى:


أولاً محور تاريخ مصر – استعراضه من منظور المواطنة أى المسيرة النضالية لحركة الناس على أرض الواقع مناضلين من أجل المساواة والمشاركة والعدل الاجتماعى عبر التاريخ, وقد اجتهدنا فى تقديم مراحل خمس لتطور المواطنة منذ محمد على وإلى الآن: البزوغ من أعلى, المواطنة المدنية والسياسية, المواطنة الاجتماعية, التغييب, وأخيرا محاولة استعادة المسيرة الطبيعية. ويناقش هذا المحور مصر القديمة وأهمية النيل, وأسس الدولة المركزية والمؤسسات ومصر القبطية من مجئالاسكندر إلى دخول المسيحية وتأسيس الكنيسة المصرية والعلاقات مع الدولة الرومانية الوثنية ثم المسيحية, ويأتى بعد ذلك مصر الإسلامية (بداية من عصر الولاة, مرورا بالطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين), وأخيرا الدولة الحديثة (بداية من تأسيس المؤسسات القومية وميلاد الحركة الوطنية والدستورية, والأحزاب التى تأسست مع مطلع القرن العشرين على أسس مدنية, وبزوغ الطبقات الاجتماعية وتعدد التيارات الفكرية والسياسية, وتأسيس وتطور الدولة المستقلة إلى يومنا هذا).


وثانياً محور العالم الجديد, ويتضمن قراءة لاقتصاده, ونظامه والحركات الإنسانية ذات الطابع المدنى والتى ساهمت فى تجديد البشرية فى العديد من المجالات مثل البيئة وحقوق الإنسان ومناهضة العولمة, كذلك الاطلاع على التطور الكونى ومقارنة الثورات المتعددة التى ذكرنا. وثالثاً محور التذوق, الذىيشمل بناء أساسيات التذوقفى المجالات البصرية (من فن تشكيلى وسينما ومسرح) والأدبية والسمعية. رابعاً محور تاريخ العالم, وماهى نقاط التحول الحاسمة فيه. وخامساً محور يعنى بالدين فى علاقته بالواقع وكيفية مقاربته لقضايا من نوعية العدل, والمساواة, والحوار, والآخر, والثقافة والحضارة. وسادساً وأخيرا محور يتعلق بتنمية المهارات الذهنية بحسب الجديد وخبرات الآخرين فى هذا المقام من تفكير شبكى. وتشكل هذه المحاور فى المجمل نواة أساسية للتكوين الثقافى يمكن أن تطرح كمشروع قومى.


أما عن الخرائط المعرفية, فنقصد بها إعداد قوائم بالكتب ذات الطبيعة الموسوعية القادرة على دعم عملية التكوين الثقافى المناسب – باللغتين العربية والأجنبية – من عينة: تكوين مصر لغربال, الأدب الشعبى لأحمد رشدى صالح, وحدة تاريخ مصر للعزب موسى, وأصول المسألة المصرية لصبحى وحيدة, وشخصية مصر لجمال حمدان, والحركة السياسية لطارق البشرى, ومبدأ المواطنة لقلادة, والأقباط لأبوسيف يوسف, وكتابات ثروت عكاشة وحسين فوزى, وسمير أمين وإسماعيل صبرى عبد الله وأنور عبد الملك, ورأفت عبد الحميد, وسيدة الكاشف, هذا بالإضافة إلى المعاصرين المتميزين. كذلك أهمية المتابعة الدوءب لكل ما يصدر عن المكتبة العالمية فى شتى المجالات.
إنه مشروع ثقافى وطنى كما قال د على الدين هلال من شأنه أن يدعم تحديث البنية الثقافية ويشيع قيم التقدم والنهضة, أنه جهد للمستقبل نحتاجه بشدة لسد الفجوة المعرفية التى تتزايد باطراد.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern