الإدارة الأمريكية إلى أين؟

تشير المتابعة الدقيقة لسياسات وقرارات الإدارة الامريكية الجديدة بعد مرور ستة أشهر إلى أنها تعاني حالة من الارتباك الشديد. أو «التخبط» بحسب المحلل السياسي الشهير رينو جيرار.

فعلى المستوى الداخلي؛ يمكن رصد الموقف الحاد والمبالغ فيه تجاه بعض قرارات أوباما مثل: برنامج أوباما للرعاية الصحية، وإعادة النظر في الاتفاق مع كوبا. كذلك عدم استقرار تشكيل الفريق الرئاسي المصاحب للرئيس بعد. أما على المستوى الخارجي؛ فيمكن تسجيل موقف الابتعاد الأمريكي عن أوروبا، كذلك الانسحاب من اتفاقية المناخ الباريسية العالمية، واتخاذ مواقف متراوحة من علاقات استقرت على مدى عقد مع الهند منذ إدارة بوش الابن. وكذلك هذا الموقف غير الحاسم من قطر. والتزامه الواضح والمبكر للتحالف مع روسيا لمواجهة «داعش» ثم النكوص عن هذا الالتزام وفرض عقوبات عليها. أيضا خروجه على مبدأ «التهدئة» الاستراتيجي الذي اتبعته الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين منذ كيسنجر. وانسحابه من الشراكة الاقتصادية الباسيفية بشكل مفاجئ بالرغم من أنها إحدى ميكانيزمات المواجهة الناعمة مع الصين...تم كل ما سبق في ستة أشهر...

لقد خاض ترامب حملته الانتخابية تحت شعار «أمريكا أولا». وهو الشعار الذي شجع بعض الشرائح الاجتماعية المتضررة من بعض الإجراءات الاقتصادية عبر عقود أن تدعمه. ما دفعه إلى أن يستمر رافعا هذا الشعار بعد انتخابه. إلى أن القراءة المتأنية للإجراءات السابقة الذكر على المستويين الداخلي والخارجي تقول أن معظمها قد جانبه الصواب والدقة. والمفارقة اللافتة للنظر والتي لا تخطئها العين هو المعارضة المتنامية له من:

أولا: داخل الفريق الرئاسي والتي تلمحها في صمت المستشارين الأهم في الفريق تجاه بعض القضايا من جهة. أو تبرير البعض الآخر من عناصر الفريق ــ دون قناعة ــ لقرارات الرئيس ومحاولة ترطيب الأجواء في مواجهة ردود الفعل المتسائلة، والحائرة، والرافضة،...،إلخ، من جهة أخرى. وذهاب البعض الثالث إلى عمل مبادرات لعلاج تداعيات قرارات الرئيس مثل موقفه المستجد تجاه روسيا. مبادرات تعود بالإدارة الراهنة لخط أوباما الذي يتم الانقلاب عليه في مساحات أ خرى.

وثانيا: بعض أعضاء الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه ترامب مثل حالة السيناتور جيري موران وموقفه الرافض من المساس باتفاق الولايات المتحدة الأمريكية مع كوبا باعتبارها: «سوق طبيعية للمنتجات الزراعية الأمريكية» ومن ثم «دعم طبقة المزارعين». وقد أعلن الكثير من أعضاء الكونجرس ومن ضمنهم من ينتمي للحزب الجمهوري أن تراجع أمريكا عن الحضور في كوبا سوف يتيح الفرصة لقوى أخرى أن تحظى بهذه الميزة الاقتصادية. وأن العودة إلى بأمريكا إلى مرحلة الحرب الباردة هو أمر غير مفيد.

ويضاف إلى ما سبق، الحلفاء الذين باتوا متشككين من استمرار الولايات المتحدة الأمريكية في تحالفها معهم. في هذا يأتي الموقف الهندي وزيارة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودى إلى أمريكا الأسبوع الماضي على خلفية الكثير من الإشكاليات منها: السياسة الأمريكية المستجدة في آسيا وتداعياتها، ومن اتفاقية المناخ والتي تلعب فيها الهند دورا بارزا، ومن إعادة نظر الإدارة الأمريكية الجديدة لنظام التأشيرات الممنوحة لشركات التكنولوجيا الهندية والعاملين بها. وبالطبع عدم ارتياح ترامب للخلل في ميزان العجز التجاري مع الهند انطلاقا من شعار «امريكا أولا». فلقد كانت العلاقات الأمريكية الهندية أكثر من رائعة منذ بوش الابن(الجمهوري) والتي استمرت مع أوباما الذى احتفى برئيس وزراء الهند حفاوة بالغة في 2014 وزار معه النصب التذكاري لمارتن لوثر كينج. أخذا في الاعتبار دور الهند المهم في التوازن الاستراتيجي مع باكستان والصين. ودورها الحيوي والرئيسي في حلف «البريكس» الذي يتضمن روسيا. وهي كلها أمور لها قيمتها في الاستراتيجية الأمريكية. إلا أن ترامب وضعها كلها موضع القلق لدى الأطراف الهندي. صحيح تم التوافق على بعض الأمور خلال الزيارة مثل: الموقف من كوريا الشمالية، وعدم القبول بعمليات إرهابية تنطلق من الأراضي الباكستانية.

والسؤال المطروح لدي الكثير من المتابعين المعتبرين إلى متى تتحمل المنظومة الدولية من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، هذه المواقف «المرتبكة»؟ وهل شعار «أمريكا أولا» قادر أن يدفع بأمريكا ان تكون ـــ بحسب ما تم ترويجه في فترة من الفترات خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ـــ «قوة عظمى وحيدة» أو «إمبراطورية» لاحقا؟

إن الدرس التاريخي الذي خرجت به أمريكا منذ تجربة فيتنام هو ضرورة التواصل ـــ بدرجة أو أخرى ــ مع الصين وروسيا وبالطيع مع أوروبا فيما يتعلق بإدارة العالم واستيعاب ما يلحق به من توترات. وتوافقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة المختلفة على ذلك بدرجات متفاوتة. ولكنها ــ قط ـــ لم يقم أيا منها بالانعزال عن الحلفاء الطبيعيين وباتخاذ مواقف حادة وتصعيدية مع القوى الصاعدة باطراد...

وبالأخير هل يصمد شعار «أمريكا أولا» ويتطور في سياق وثيقة الأمن القومي التي من المفترض أن يصدرها الرئيس الأمريكي بحسب العرف التاريخي...لننتظر ونرى...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern