الأقباط‏..‏ من آية الاندماج إلي حديث الفتنة

استعاد المصريون‏,‏ في ميدان التحرير‏,‏ درجة من درجات الاندماج الوطني العابر للأجيال والطبقات والمختلفين جنسيا ودينيا. ففي التحرير اكتشف المصريون أنالهم واحد, وأن صعوبة العيش وتردي الأحوال والتدهور لا تفرق بين مصري وآخر. وحدهم شعار كرامة انسانية/ عيش, وحرية سياسية/ عدالة اجتماعية.

في مجال العلاقة بين المصريين المسلمين والمسيحيين ـتحديدا والتي مرت باختبارات صعبة علي مدي العقود الأربعة الأخيرة ـ, سرعان ما اكتشفنا كم توحدنا المعاناة المشتركة. فرأينا صورا ونماذجا للتعايش الوطني تتجلي في التحرير: مشاهد الأقباط الذين التفوا حول المسلمين لحمايتهم وقت الصلاة والعكس, والرموز الكلاسيكية للوحدة الوطنية المصرية الهلال والصليب والتي رفعت في التحرير, والشعارات ذات الطابع السياسي والمدني والاجتماعي والتي تجاوز بها المواطنون انتماءاتهم الدينية الأولية. وهو ما عبر عنه أحد الشعراء( حسن طلب في ديوانه إنجيل الثورة وقرآنها في القصيدة المعنونة آية الميدان كما ذكرنا في أكثر من مناسبة) لأن يقول: كفي الثورة الآن إيمانها.. فمعبدها الآن ميدانها- وقرآنها اليوم إنجيلها.. وإنجيلها اليوم قرآنها. وهكذا الحالة الثورية دوما تجمع ولا تفرق. حيث يتجاوز المصريون أي خلاف وتصير الثورة إيمانهم من أجل الحصول علي الحقوق دون تمييز. وهو ما تجسد في كل ممارسة في الميدان الذي صار قبلتهم.


إن الحالة التحريرية, حالة تكررت كثيرا في اللحظات الثورية التي عرفتها مصر, منذ دخول الاسلام إلي مصر, حيث نجد دوما الحراك علي المستوي القاعدي يجمع بين المصريين مسلمين ومسيحيين, ولعل ثورة البشامرة في فترة المأمون الثورة الأبرز والتي بدأت قبطية وأصبحت مصرية بالتمام إلي أن قمعها المأمون. ولم يكن التماثل الديني: الروماني المسيحي أو البيزنطي المسيحي ميزة استفاد منها أقباط مصر في الفترة القبطية حيث عانوا أشد المعاناة منهم. كما لم يكن التماثل المذهبي السني بين مسلمي مصر والحكام الوافدين من السنة, ولا التماثل الديني بشكل عام بين مسلمي مصر من السنة والحكام الوافدين من الشيعة وقت الدولة الفاطمية بعصريها الأول والثاني أيضا ميزة لهم. وظل المصريون يقاومون ويثورون ضد الحاكم الوافد خلال هذه الفترة. وفي ثورة 1919 تبني الثوار مقولة الوطنية ديننا, فعلا وقولا. وهكذا نجد كيف أن الحالة المصرية في لحظات ثورتها في حالة جدلية بين الدين والوطن لا نافية لكل منهما. وكذلك كيف أن الحالة الثورية تستعيد المصريين إلي الانخراط المجتمعي من أجل بناء مصر الجديدة علي قاعدة المواطنة. لقد كان التحرير لحظة حق تكشف فيها أن نظام الاستبداد من مصلحته أن يتعامل مع الأفراد بحسب الانتماء الأولي. فالسيطرة علي الأفراد أسهل إذا تم عزلهم عن بعضهم البعض والتعامل مع كبيرهم. وهكذا قسمت مصر إلي فرق وملل. حيث من السهل التعامل مع الناس كأفراد ينتمون إلي دوائر انتماء أولية, عن التعامل معهم كمواطنين ينتمون إلي الوطن ويتحركون معا ويناضلون معا ويبنون معا. وساهم في دعم ذلك فتاوي دينية من فرق دينية متشددة أعادت تقسيم المجتمع علي أساس ديني رأسي.


في ظل هذا التقسيم الرأسي الديني للمجتمع. تسود فكرة التماثل بين كل المسيحيين من جانب وبين كل المسلمين من جانب أخري. وهي فكرة غير صحيحة بالمطلق. لأنه عند التحرك الثوري نكتشف أنه فيما عدا الاختلاف الديني يمكن أن نجد توافقا بين المصريين المسلمين والمسيحيين من حيث الطبقة والمهنة والتوجه الفكري والايديولوجي, والعكس صحيح تماما أنه بالرغم من التوافق الديني يمكن أن نجد اختلافا في الرؤية للعالم والمجتمع. وأليست الاحتياجات البيولوجية والنفسية والمادية والاجتماعية والثقافية لدي الشباب المسلم هي نفسها التي لدي الشباب المسيحي. فمن الواضح أن كل من المستبد السياسي والمتشدد الديني, من مصلحتهما أن يجمدا كل ما هو اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي يمكن أن يلتقي فيه المواطن المصري المسيحي والمسلم. التحرك نعم من خلال الجماعة الأولية وعبر كبيرها, لكن التحرك الفئوي أو العمالي أو المهني أو الطبقي أو الوطني كمواطنين معا غير مقبول لأنه آنذاك سيكون في مواجهة الاستبداد السياسي والديني معا.


عندما عرف المصريون الاحتجاج علي النظام السياسي بداية من حركة كفاية. انطلق الأقباط مع المسلمين من خلال الحركات الاحتجاجية ثم الحركات الحقوقية والمدنية وأخيرا ثورة25 يناير مشاركين بفاعلية. كذلك انطلقت حركات الشباب التي بدأت رافعة المطالب الدينية في لحظات التوتر الديني قبل25 يناير باتت تتحرك علي الأرضية المدنية وفي المجال السياسي, سجلنا في بحث أخير عدد تسع حركات تتراوح بين كونها ذات طابع مدني محض ولكنها قبطية المكونات, ومدنية الطابع وتتكون من مصريين مسلمين ومسيحيين.


المحصلة المؤكدة هي أن هناك نخبة قبطية, تجاوزا, مدنية باتت موزعة علي الحركات الشبابية أو ما يمكن وصفهم بنخبة الميدان. كذلك هناك نخبة قبطية مدنية خليط من النخب السياسية القديمة ما قبل 1952 والعائلية الريفية والتجارية والاستثمارية الجديدة. ويضاف إليها جيل السبعينيات ورموز الحركة الاحتجاجية والحركة الحقوقية المدنية والثقافية التي بزغت منذ التسعينيات. كلها بدون استثناء تضمنت أقباطا انتشروا في الكيانات السياسية الجديدة والقديمة, حزبية ومدنية.


نحن إذن أمام واقع جديد لا يمكن إنكاره أو تجاهله ونثق أنه سوف يستمر. وطالما هناك براح أو مساحة حرية في المجال العام, فإن هذا هو الضمان الوحيد في أن عقارب الساعة لن تعود إلي الوراء. لذا ليس من المقبول أن يكون هناك حديث عن أن الأقباط عادوا إلي التصويت ككتلة أو إلي التصويت الجماعي. لأن هذا سيكون حديث الفتنة. ومن الأهمية الكشف عن من له مصلحة في ترويج ذلك. فالثابت أن الدوائر التي تصوت تاريخيا للجماعة قد أعطت للمرشح المنافس أخذا في الاعتبار قلة عدد المصريين من المسيحيين فيها. كذلك ارتفاع المصوتين لحمدين صباحي في الدوائر التي بها حضور ملموس من الأقباط.


لقد انقسمت الأسرة الواحدة في اختياراتها وكما لاحظ البعض أن الآباء والأمهات اعطوا أصواتهم للكبار وأن الشباب صوتوا لحمدين وعبدالمنعم أبو الفتوح وخالد علي, ما يعني غلبة التصويت الجيلي المدني الثوري والإصلاحي. وهناك واقع جديد آخذ في التشكل, فمصر ليست ساكنة وإنما هناك حركية جديدة لن يصلح معها التعاطي النمطي. ليتنا نتمسك بالاندماج آية الوطن الذي نحلم به جميعا, لأن غير ذلك يعني خذلان الوطن وهو الكفر بعينه.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern