الإقطاع الرقمي

’’ العمل‘‘؛ أحد أهم القضايا التي انشغلت بها الأوساط البحثية والسياسية خلال 2019...وهو ما تجلى في العديد من التقارير، والكتب، والندوات الأكاديمية من جهة، والمؤسسية الرسمية المتنوعة من جهة أخرى...
ويأتي هذا الانشغال نتيجة ثلاثة عوامل نرصدها كما يلي: العامل الأول: ارتفاع معدلات البطالة التي نتجت

عن السياسات التقشفية التي تم اتباعها في أعقاب الأزمة الاقتصادية الأسوأ في التاريخ الإنساني التي انطلقت في 2008 ولم تزل تداعياتها ممتدة حتى يومنا هذا. العامل الثاني: دخول العالم إلى ما بات يُعرف "بالثورة الصناعية الرابعة" والتي ستحل فيها الآلة المتقدمة والذكية محل المواطن. أو اعتماد "بالأتمتة" كنظام بديل للقوة البشرية في منظومة العمل: فنيا وإداريا. نعم هو إحلال يعكس نقلة حضارية تقنية غير مسبوقة تاريخيا. إلا أنه سوف تكون له أثارا شديدة الضرر. أقلها ضررا سوف يكون تزايد نسبة البطالة إلى 40% من إجمالي قوة العمل(تصل إلى 50% في حالة الولايات المتحدة الأمريكية). وأخطرها تنامي اللامساواة والوصول إلى حافة خطر مجتمعية يصعب ضبطها (راجع مقالنا في الأسبوع الماضي: الرأسمالية والطبقة الوسطى). العامل الثالث: هو التغير الجذري المتوقع في طبيعة العلاقات الاجتماعية، والبنية الطبقية. وبالأخير تغير مفهوم العمل ومسرحه، وعلاقاته، وتراتبيته، ونظمه...ومن محصلة العوامل الثلاثة السابقة يمكن القول، أن تقدما تقنيا حضاريا لافتا ستشهده البشرية. ولكن في مقابله سوف نشهد وضعا مجتمعيا خطرا...لماذا؟
بداية نشير إلى أن الميزانيات المخصصة للاستثمار في المجال الرقمي تتجاوز ال30 تريليون دولار...ففي مجال التكنولوجيا المالية فقط هناك استثمارات تقدر ب 150 مليار دولار. وتدلل عوائد بيع اللعاب الإلكترونية العالمية في 2019 والتي تجاوزت ال100 مليار دولار على هذا التحول الكوني في التوجه نح الزمن الرقمي...أخذا في الاعتبار أن أكثر من نصف سكان الكوكب لا يزالوا بعيدين عن هذا الزمن. حيث أن المستفيدين منه أقل من 4 مليار مواطن في العالم. وقد ساهم الإحصاء الأخير على أن يفتح آفاقا بحثية غاية في الأهمية تحاول الإجابة عن ما يمكن أن يؤول إليه أحوال مواطني العالم...ومن ضمن ما أنتجه "العقل" البحثي، الحي والمتجدد، خلال 2019، أكثر من دراسة عن مستقبل "العمل" وأثر المستجدات التي ستطاله على الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا والمنبوذة...ويمكن إيجاز حصيلة البحث، الذي تناول سوق العمل الراهن والرقمي المستجد في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ــ بالأساس ــ كما يلي:
أولا: عدم القدرة على استيعاب عمالة جديدة بالرغم من تزايد الطلب على العمل. وبالكاد استطاعت بعض البلدان تثبيت عدد العمالة. ثانيا: البدء في تغيير قوانين العمل لتعطي حرية حركة للتعامل مع العاملين وفق ما تقتضيه سياسات التقشف من جهة. ومسرح العمل الجديد الذي سوف يستغني عن العمالة البشرية. ثالثا: تصاعد "النبذ"، بفعل الحقبة النيوليبرالية" لفئات تنتمي للطبقات الوسطى خارج سوق العمل. ويبلغ عددها أربع فئات نذكرها كما يلي: فئة العمالة التي لا تجد ما يناسب ما تعلمته. وفئة الخبراء الذين يقدمون خبرتهم عند الحاجة. وفئة الذين يعملون بالقطعة أو بعض الوقت. وفئة العمالة الرخيصة سواء من أهل البلد أو المهاجرين. يضاف إلى ما سبق الطبقة الدنيا التي لا تجد لها مكانا آمنا في سوق العمل وطبقة "البريكاريات" أو المنبوذين الذي هم ــ من الأصل ــ خارج الخطط والحسابات والسياسات...والنتيجة الحتمية هي تنامي "النبذ" “Precarity”؛ الاقتصادي والاجتماعي بكل ما لها من تداعيات مؤلمة. ويقينا سوف تتنامى هذه الظاهرة مع الزمن الرقمي...في هذا الإطار، يتوقع أحد الباحثين أن يحدث تحولا جذريا في بنية الجسم الاجتماعي...كيف؟
ستؤدي الاستثمارات المتزايدة في المجال الرقمي إلى زيادة تمركزها في أيدي قلة سوف تخلق بنية "إقطاعية" جديدة “New Feudal Structure”؛ "رقمية حاكمة". بنية أشبه بالإقطاع القديم الذي كان يتكون من ملاك الأرض والفلاحين. حيث تتكون الإقطاعية الرقمية من: ملاك العالم الرقمي الجديد الذين يمتلكون الفضاء الرقمي في عمومه ويعملون على التمدد الدائم له من خلال ضخ المال والاستثمارات بلا سقف. ومع إشاعة وهم بأن الزمن الرقمي سوف يستفيد من ثماره الجميع. بينما في حقيقة الأمر لن يحصد هذه الثمار سوى القلة الثروية(طبقة ال1%). ولكن لا يمنع أن يكون هناك "منتفعين" من "الأجراء": الخبراء أو المشغلين للمنظومة الرقمية...ما سيشكل حالة من العبودية الجديدة. حيث تناول أحد الباحثين أوجه الشبه بين نظام العبودية القديم وصورته الجديدة في السياق الرقمي...ما يعني الإعلاء من قيمة الربح على حساب الرفاه والتنمية. ويلفت النظر، باحث آخر كيف أن "الحراك المواطني القاعدي" الممتد والمتواصل ــ فرنسا مثالا ــ ما هو إلا تجل لفشل الديمقراطية التقليدية من التعبير عن مصالح من هم صاروا خارج سوق العمل الراهن بفعل الحقبة النيوليبرالية، والمنتظر خروجهم من جراء الزمن الرقمي والمتوقع ألا يعطي اعتبارا للديمقراطية إذا ما كانت ستعطي مساحة كي يعبر المواطنون العاديون و"المنبوذون" عن همومهم في ظل أولوية الربح على الرفاه...ومن ثم اللجوء إلى الساحات خارج الكيانات التقليدية.
بالطبع، لا يتناول الجدل الدائر موقفا من التقدم التقني الرقمي. وإنما كيف يمكن الموائمة بينه وضرورة دمج الجميع(ومن ضمنهم المنبوذين القدامى والجدد) في الزمن الرقمي على قاعدة المواطنة العادلة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern