’’الفرد قبل المجتمع أم المجتمع قبل الفرد"؛
هذا هو العنوان العريض الذي حكم النماذج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية على مر التاريخ...
ففي مرحلة من المراحل(قبل الثورة الصناعية) كان السيد الفرد يتحكم في كل شيء حتى على البشر ويدعمه في ذلك رجال الدين فيما عرف بتحالف النبلاء والكهنة. وهي المرحلة التي ساد فيها نموذجا تاريخيا "إقطاعيا/دينيا". ومع بزوغ المعمل والمصنع حل نموذج جديد محل النموذج السابق. نموذج تاريخي يعتمد على "الانتاج/العقل/الحرية". وفي توصيف دقيق ومركز يقول المفكر والسياسي الفرنسي جاك أتالي"( في مقال نشره مؤخرا حول جائحة الكورونا ترجمة محمد شوقي الزين)، عن هذا الانتقال الحاسم في تاريخ البشرية بأنه انتقال من نموذج أول يتمثل في "السيادة القائمة على الاعتقاد" ويمكن أن نضيف والعبودية، إلى نموذج يقوم على"سيادة الدولة" ومؤسساتها المختلفة من جانب وأفراد يتحركون في شتى الاتجاهات في المجتمع من جانب آخر.
ومن رحم هذا النموذج (الثاني) تعددت الأشكال والوسائل التي تنظم هذه العلاقة على شتى الأصعدة. فعلى المستوى السياسي رأينا منذ الثورة الفرنسية(1789) أنظمة سياسية متنوعة الاتجاهات...ودينيا شهدنا تجليات دينية ومذهبية وعقائدية متعددة...أما اجتماعيا/ثقافيا فقد طرأت على منظومات القيم الاجتماعية/الثقافية الكثير من التطورات: تارة بالقانون، وتارة قسرا، وتارة بحكم التقدم التقني من جهة والإبداع الفكري الذي انحاز إلى الكشف عن قدرات العقل ومكنونات النفس البشرية. والأهم لحقوق المواطن كل مواطن والعدل بين الجميع.إلا أن الأمر لم يكن يسيرا كما يبدو...فالقراءة الدقيقة التفصيلية للتاريخ تشير إلى أنه دار دورة كبيرة هائلة. ولم تكن الحصيلة على مستوى الوعود والعهود.
فلقد فشل النموذج الثانيــبدرجة أو أخرىــ بتجسيداته المختلفة: الرأسمالية والاشتراكية، دولة الرفاه والدولة الراعية، الشمالية والجنوبية، الدينية والمدنية،...،إلخ. كما شهد العالم في مائتي سنة من ثمانينيات القرن الثامن عشر إلى ثمانينيات القرن العشرين عشرات الحروب، ومئات النزاعات الإقليمية إضافة إلى حربين عالميتين راح ضحيتهما ما يزيد عن 100 مليون انسان/مواطن عسكري ومدني. هذا عدا ضحايا حروب الإبادة العرقية، والكوارث: الطبيعية، والنووية، والبيئية، والحيوية،...،إلخ. والأخطر هو حدوث أكبر تفاوت عرفته الإنسانيةبين قلة ثروية وأغلبية البشر.
ومع الثلث الأخير من القرن الماضي انتقل العالم إلى نموذج ثالث ــ بحسب أتالي ــ هو "النموذج الاقتصادي/المالي" حيث ساد السوق وانطلقت العولمة تحت دعاوى ’’تساقط الثمار‘‘ على الجميع. الأمر الذي لم يتحقق قط منذ 1979.بل دخل العالم في أزمات اقتصادية/مالية متعاقبة يقدرها البعض بأكثر من مائتي أزمة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي وإلى الآن. وهي الأزمات التي لم تنج منها دولة قط بفعل الجائرة النيوليبرالية. وهو ما ظهر جليا ــ وأكد فشل جور اقتصاد السوق ــ في ذروة تأجج الأزمة في 2008 والتي استمرت بعدها وتفاقمت مع "الجائحة الفيروسية" الراهنة.
ولعل أهم ما كشفت عنه "المحنة" التي يواجهها العالم الآن هو انقضاء الجدل الذي أخذ الكثير من الوقت والجهد، وفي أحيان كثيرة الصراع حول أولوية الفرد أم أولوية المجتمع. وهو الحوار الذي كان مقبولا في زمني النموذج الأول والثاني من العالم ــ إذا ما استعرنا تصنيف جاك أتالي ــ حيث كان التطور المجتمعي من جهة أولى، ونمط الانتاج وما يترتب عليه من علاقات انتاج من جهة ثانية، ومن ثم موازين القوة من جهة ثالثة.
إلا أنه ومع حلول النموذج الثالث: "الاقتصادي/المالي" تم "تسليع" الفرد وكل عناصر الحياة الإنسانية من حوله. وتم تحويل المجتمع إلى "سوق" حيث يتم تداول السلع المختلفة دون حدود جغرافية وجمركية وفق قوانين العولمة المالية والتجارية تحت هيمنة البورصات العالمية والشركات المتعددة الجنسية. نعم أتيحت الفرصة لتداول حرية المعلومات والتواصل الثقافي إلى أنه في المقابل أخضعت الثقافة أيضا للتسليع فيما عرف "بتسليع الأشكال الرمزية" مثل: بيع منتوجات الفن التشكيلي في المزاد، والدخول في زمن المواعظ المدفوعة الأجر، وإدارة الحزب كشركة مساهمة، وتشغيل المعمل لبيع ما يكتشفه وتدويره لصالح الشركة وفق قوانين السوق سواء كان للعلاج أو للتجميل،...،إلخ. أي احتكار كل من الحزب والمعمل والمعبد والقيم والمجتمع والفرد.
الخلاصة أن الحصيلة الختامية لهذه المسيرة التاريخية الممتدة تقول لنا بأن "الانتقالات" المتعاقبة ــ بحسب أتالي ــ لم تستطع أن تقدم لنا ــ للإنسانية ــ "ما يليق بالوجود الإنساني". بل عرضته "لفوضى" عارمة كما أشار لتفاصيلها "جاك أتالي" في كتابه "غدا:من سيحكم العالم ؟" (ترجمته سونيا محمود نجا ـ 2016). كما تركته يواجه "الجوائح" و "الجوائر" التي لم يعد من الممكن الفصل بينها وبين تداعياتها الملتبسة والمشتبكة على إنسان/مواطن اليوم.
في هذا السياق، يطرح "أتالي" وغيره من دعاة التيار النقدي، بأن "التضامن العالمي هو القيمة الوحيدة" التي يمكن أن نستند إليها في إنقاذ ما يواجه الكوكب من أزمات مركبة بفعل "تآكل النماذج" التي جربتها البشرية تاريخيا من: ’’عبودية أبوية، وسلطوية مؤسسية وفردية أي بتجلياتها المختلفة، واستهلاكية سوقية"، خاصة وأن النتيجة النهائية ليست مرضية أو مقنعة.
’’تضامن" يُعلي من قيمة الإنسان، ويعيد الاعتبار لدوره كشريك في الإعمار والتجديد والحماية والتقدم من خلال شتى أبنية المجتمع. التي تعني عمليا أن يكون كل من: الحزب، والشركة، والمعبد، والمعمل في خدمته...شراكة تعني أنهم مواطنون ليس بالضرورة متماثلين ولكنهم جميعا على اختلافهم لهم حق الحياة على قاعدتي العدالة والكرامة الإنسانية في سياق مجتمع وطبيعة وبيئة متقدمة وآمنة وخضراء وصحية...إنه زمن النموذج الرابع من تاريخ العالم وجوهره: الإنسان/المواطن...نتابع...