بالرغم من مرور خمسة قرون على الإصلاح الدينى الذى أعلنه مارتن لوثر القس البروتستانتى (الراهب الأغسطينى المذهب قبل ذلك عام 1517م) ضد صكوك الغفران الكاثوليكية التى تعطى الحق للمؤسسة الدينية فى أن تزيد أو تقلل من العقوبات المنتظرة فى الآخرة للفرد بحسب ما يدفع من مال. فإن الحدث لم يزل مثار نقاش فى الحقول المعرفية المتعاقبة. لما فتح من آفاق تتجاوز علاقة الانسان بالمؤسسة الدينية إلى ما هو سياسى وثقافى واجتماعي...
فكما أشرنا فى الأسبوع الماضي، «بعيدا عن الوجه اللاهوتى التخصصي»، فإن الإصلاح فى وجهه المركب الآخر يعد «نقلة نوعية فى مسار العقل الإنساني». بل يمكن القول إنه تأسيس عقلى جديد عناصره: الحرية والإبداع والنضال من أجل الحقوق...وكان السؤال المحورى و«المفتاحي» الذى رافق مدارس البحث المتعاقبة حول »الإصلاح الديني« هو هل إحداث تحولات نوعية فى جوهر المجتمع والدولة هو عمل فردى أم عملية مجتمعية؟...أو بلغة أخرى هل الاحتجاج اللوثرى فى ذاته ــ كعمل فردي: وحده دون غيره ــ كان الدافع للتغيير أو أن الواقع الاجتماعى بتفاعلاته الحيوية كان قاعدة تفعيل للفكرة الاحتجاجية.
يشير كرين برينتون فى كتابه العمدة: »تشكيل العقل الحديث«(ترجمة شوقى جلال) إلى العلاقة »الجدلية« بين »الرأسمالية البازغة ــ آنذاك ــ وبين البروتستانتية«. حيث قام بتحرير السؤال من سذاجة طرحه على أرضية »أيهما أول البيضة أم الدجاجة«. فلا ريب، يؤكد برينتون »أن وقوع تحولات عميقة مثل تلك التى تضمنها تحول اقتصاد زراعى مكثف بذاته إلى اقتصاد نقدى يرتكز على تجارة السوق الواسعة، يجعلنا نتوقع أن تكون مصحوبة، ومتبوعة، بتحولات عميقة فى كل جوانب الحياة الإنسانية. وليس لنا أن نتوقع بأن تكون مصحوبة أو متبوعة، بالضرورة بإصلاح بروتسانتي، على نحو ما حدث فعلا«. وهو إصلاح مركب تعرض لارتدادات معقدة.
لا يقلل هذا التفسير من »إصلاح لوثر« بقدر ما يوجه النظر إلى أهمية السياق المجتمعي،فى تلقف الأفكار الجديدة وتفعيلها عبر طبقات وأجيال جديدة ثائرة على القديم بأفكاره ومؤسساته. وبغير ذلك تظل الفكرة الإصلاحية مهما تكن جودتها حبيسة عقل صاحبها، أو طائرة فى المجال الفكرى لا تحرك الواقع. فلقد ظلت أفكار روسو وفولتير وغيرهما،الراديكالية، متقدمة على زمانهم. ولم تفُعل إلا عندما كانت هناك بيئة متحولة تشهد ميلاد قوى اجتماعية قادرة على حمل الأفكار الجديدة...فى هذا السياق، تأتى التحليلات المتعاقبة كما يلي: التحليل الاقتصادى البسيط ويمثله وليام كوبيت، ومن بعده التحليل الماركسي، فتحليل علم الاجتماع الوظيفى الفيبري، وهناك تحليل مدرسة علم الاجتماع الدينى الكلاسيكي، وعلم الاجتماع الدينى المحدث الذى تطور مع تطور الحركات الدينية الاجتماعية الوطنية منها والعابرة للحدود. كذلك تحليل المدرسة التاريخية متعددة مستويات التحليل والقراءة، فمدرسة اليسار الجديد والمدرسة ما بعد الحداثية...حيث أجمعت على أن الواقع الأوروبى وقت الإصلاح الدينى كان يشهد ارهاصات »سلسلة متكاملة الحلقات من التحولات الاقتصادية. وبدء تبلور اقتصاد تجارى جديد. وتبلور طبقة »برجوازية« صاعدة لم يكن بإمكانها التعايش أو الاتساق مع الطبقة الحاكمة الإقطاعية البالية بممارساتها الاقتصادية وبقيمها الفكرية المهيمنة على العقل الإنسانى والمدعومة دينيا.
إذن، فلقد وجدت الطبقة التجارية البازغة ضالتها فى الفكرة/الأفكار الإصلاحية. ومن ثم انحازت لها، وتبنتها، بهدف تحرير الفرد من الآثار السيئة لصكوك الغفران. وعليه ارتبطت الرأسمالية الصاعدة بالإصلاح البازغ. وهو ما شرحه ماكس فيبر فى مرجعه الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية.
هكذا، كان العمل الفردى الإصلاحى مواكبا للحظة تحول تاريخية. ومن خلال عملية مجتمعية مركبة تولدت علاقات اجتماعية جديدة من ظروف مادية جديدة، وتكونت على أساسها فلسفة جديدة : جوهرها الحرية. وزمن جديد: جوهره الانسان.
وفى هذا المقام يمكن رصد أربعة تحولات جذرية نتجت عن الإصلاح الدينى فى إطار العملية المجتمعية المركبة التى جرت كما يلي: أولا: تراجع الإقطاع الاجتماعى والكنسى والريفى لمصلحة المدينة والتجارة، ولاحقا التصنيع، بكل ما حمل من قيم جديدة. وثانيا: الحضور القوى لقيمة العلم. فالتطور الصناعى يعنى الابتكار، كما يعنى توافر المعمل الذى من خلاله يتم تطوير المنتج لضمان الاستمرار فى القدرة على التنافس. والأهم هو قدرة الانسان على السيطرة على الطبيعة. وثالثا: الانتصار لفكرة التقدم الاجتماعى عبر المبادأة والمبادرة الفردية على قاعدة الحرية فى مواجهة مؤسسات الاقطاع القديمة: النبلاء، ومؤسسة الصكوك الدينية، والسلطة الملكية. وعليه اكتشاف الفرد وقيمته الانسانية والمجتمعية. وأن له حقوقا لابد من تأمينها بالنضال من أجل الفوز بها. ورابعا: انهزمت بحسب ــ المفكر السياسى البارز هارولد لاسكى فكرة العصر الذهبى فى الماضى مع الفكرة المصاحبة لها عن الخطيئة الأزلية أمام مذهب التقدم والفكرة المصاحبة له وهى الكمال عن طريق العقل... ومن ثم قدرة الفرد على التغيير.
الخلاصة أن التقدم هو عملية مجتمعية مركبة علينا أن نسعى ونناضل من أجل توفير الشروط الموضوعية لتحقيقه والتى من ضمنها الإصلاح الديني...