الإنسان والمكان

يمثل المكان في حياة كل منا أهمية كبرى, فهناك علاقة تفاعلية بين الإنسان والمكان الذى يعيش فيه. فالمكان ليس مساحة جغرافية نتحرك فيها, وإنما فراغ يتم تشكيله وتقسيمه بحسب ما لدى البشر الذين يعيشون فيه من تصورات وأفكار وفق التطور الذى بلغوه. وفى نفس الوقت فإن المكان بما يتضمن من أبنية وطرقات ولافتات وسمات طبيعية ومستحدثة هو تعبير عن البشر ومدى تقدمهم. ويقول جمال حمدان فى مقدمة “شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان”, “إن شخصية الإقليم (المكان) كشخصية الفرد يمكن أن تنمو وأن تطور وأن تتدهور..”.


مع إدراك أهمية المكان, بدأت الدراسات العلمية التى تبحث فيما وراء المكان, فالعناصر المادية للمكان من جيولوجية ومواد بناء وطرز معمارية وطرق وتنظيم للأماكن المختلفة من قاعات درس, وعمل, وحوانيت, ومنازل..إلخ, هى فى واقع الأمر حروف وكلمات ونصوص تحكى لنا قصصا لا حصر لها عن الناس: حياتهم وتحيزاتهم وهوياتهم ومعتقداتهم وأفعالهم وأذواقهم..الخ, وعليه تتبلور قيمة المكان فى حياة هؤلاء الناس, فبمقدار ما يكون لهم دور فى تكون هذا المكان فى إطار تطوره من حالة أدنى إلى حالة أرقى, تزداد العلاقة بين الإنسان والمكان, وتصبح لهذا الإنسان ذاكرة حول المكان يفخر بها ويرويها.. فالمكان بات شاهدا على الجهد الإنسانى والتطور الاجتماعى.. والعكس صحيح, فغياب الجهد الإنسانى وترك المكان للعشوائية يجعل الإنسان غريبا عنه, ويدفعه للتعامل بعنف مع المكان فتنتج التشوهات التى تطال المبانى والطرق واللافتات وسوء اختيار الألوان, وافتقاد أى جماليات, وعليه تتدنى كثيرا قيمة المكان فى حياتنا. (يمكن مراجعة شخصية بريطانيا لسيريلفوكس, وتكوين مصر لشفيق غربال, وشخصية فرنسا من الناحية الجغرافية للافيس, والجغرافيا الثقافية وأهميتها في تفسير الظواهر الإنسانية لمايك كرانج).


بالإضافة إلى اهتمام الدراسات العلمية بالمكان, اهتم الأدب أيضا وتنوعت أشكاله, فنجد ثلاثية نجيب محفوظ – بين القصرين وقصر الشوق والسكرية – تؤسس للكتابة عن المكان كبطل ومحور للأحداث, وتتوالى الإبداعات: إسكندرية إدوار الخراط, وهليوبوليس (عن حى مصر الجديدة) مى التلمسانى,.. الخ. وباريس البؤساء لهوجو,..الخ.


ومع التطور العلمى, بات من الممكن الجمع بين العلم والأدب للتعرف على تاريخ الأماكن وتحولاتها ذات الطبيعة المادية وانعكاسه على الناس سلبا أو إيجابا, من حيث استجاباتهم لهذه التحولات وأثرها على علاقاتهم وسلوكياتهم وإجمالا درجة تمدنهم. فتم توظيف التاريخ بأحداثه الهامة وعلم الاجتماع والتطور العمرانى والمعرفة بالفنون المتنوعة وأساسيات السرد الأدبى لرصد التطور الحادث فى مكان من الأماكن الذى يعكس فى الواقع تطور الجماعة البشرية التى تعيش في سياقه. انه نوع من الكتابة التى تتسم بالرؤية المركبة التى تضفى عمقا على المشهد موضوع الحديث.


فى هذا السياق يأتى إبداع المفكر والأديب الصديق د.خالد زيادة “يوم الجمعة.. يوم الأحد: مقاطع من سيرة مدينة على البحر المتوسط”, نموذجا للكتابة عن المكن, فإذا كانت الكتابة عن تاريخ المدن والأماكن مرهونة بعمق علاقة الكاتب بالمكان فى تحولاته التاريخية المتعددة, وبمدى امتداد جذوره فى عمق هذه التربة واختراقها لطبقات متعددة أسهم فى تشكيلها الزمن والبشر والأحداث, فإن خالد زيادة نجح أن يقدم لنا سيرة مدينة طرابلس اللبنانية, حيث- كما جاء فى تقديم الكتاب الذى تعيد نشره هيئة قصور الثقافة فى سلسلة هوية المكان- يراوح الكاتب بين رؤيته الذاتية لمدارج الطفولة والصبا والشباب, وبين تحولات المكان العمرانية والجمالية فى الخمسينيات والستينيات, وما نتج عنها من تغير فى علاقات الناس بالمكان.


يستهل خالد زيادة سيرة مدينة طرابلس بقوله “ثمة مدينة تقع على المتوسط الشرقى كانت تتلقى, بصمت حينا وبدوى عنيف آثار التجاذبات التى جابهت ما بين أطراف المتوسط..كنا صغارا آنذاك, حين بدأ أهل المدينة وكأنهم ينتقلون على عجل من مدينتهم القديمة صوب الجهة الغربية التى امتد إليها العمران وسط بساتين الليمون التى كانت تحيط بالمدينة.. لقد شغلت دائما بمعنى هذا الانتقال الذى لم يخل من تدمير وتشويه للمدينة القديمة وعمرانها. كنت أظن أن التشويه يطول عمران الماضى وعاداته, إلى أن تنبهت, قبل سنوات قليلة, إلى أن أعمال التدمير تطول أيضا المبانى التى كانت رموزا للتحديث. أدركت أن مقاربة الموضوع لايفى بها التحليل التاريخى أو السوسيولوجى, فلابد أن نستنطق وجهة نظر العمران والعادات, فراجعت تجربتى الخاصة فى بيئتى التى نشأت فيها أو الناس الذين عشت وسطهم, ونقبت فى بقايا الذاكرة لأتعقب علاقتى الخاصة بتلك المعالم والأمكنة التى شكلت عالم طفولتى وصباى. لم أكن أسعى لكتابة سيرة ذاتية.. بل سيرة الأمكنة فى زهوها واندحارها كما عشتها (على خلفية الأحداث السياسية الكبرى التى شهدتها المنطقة ولبنان).. سيرة متقطعة للأوقات المتغيرة.. وللعلاقة الحميمة التى تقوم بين الأمكنة وبين الأوقات. أوقات سايقة اندثرت بعد أن انحط الزمن بأمكنتها”.


الزمن يترك بصماته على الأمكنة, فى ذلك الوسط المدينى حيث التجاذب بين القديم والجديد, إنها ليست سيرة شخص بل سيرة للمكان والعمران. سيرة المنزل بما يضم من أثاث: السرير النحاسى والذى تم استبداله لاحقا بأسرة من معدن رخيص وأقل ارتفاعا عن الأرض, والاستغناء عن المكواة التى تحمى بالفحم واستخدام أخرى كهربائية, إنه أمر أشبه يقول الكاتب “بانتقال من عصر النحاس والفحم إلى عصر الفورميكا والكهرباء”. كما انها سيرة الحارة, والفصل المدرسى, والحى, والسينما, والمقهى, ومايشكله كل موضوع من علاقات.


إن انتقال المؤلف إلى مدرسة أخرى تقع فى وسط المدينة الحديثة يعنى “انتقال فى الزمن أكثرمما هو تبديل للمكان”, لقد كانت نقطة لقاء للتنوع والاختلاف, “فلا مجال للاستقصاءات الأنتربولوجية.. ثمة اختلافات بين الطلاب”, ولكنهم اجتهدوا فى أن يندمجوا “مدينيا”, وأن ينخرطوا فى “الموجات التى تستهوى الشباب, والحق أن القسمة لم تكن على أساس دينى, بل على أساس الانخراط فى النموذج المدينىالمشترك الآخذ فى التكون” مع مطلع الستينيات.. “لم نكن بحاجة إلى قراءة التاريخ حتى نختار أصدقاءنا, فالأصدقاء امتداد لأوقاتنا.. وأجزاء من الأمكنة التى لا تنفصل عنها”. ويشير المؤلف إلى دلالة الجمعة والأحد بما تمثله من رموز اجتماعية وطقوس دينية وكيف احتضنهما المكان, ومثلا رمزا للتعدد.


يخلص زيادة إلى أن مدينة الستينيات شهدت فترة “تذليل العقبات بين التقاليد والحداثة وتوافق بين النماذج والقيم, إنها فترة تفاؤل وأمل”. وأن التراجع عن التطور المدينى والوقوع فى الصراع الأهلى, جعلالستينيات سنوات سريعة” جاءت مبكرة وربما انقضت قبل أوانها”.
تفتح سيرة المكان كما أبدعها خالد زيادة آفاقا لكل منا أن نستعيد علاقتنا بالمكان, ونتأمل حال المكان والعلاقات الذى تدور فيه, وأن نسأل ماذا فعل بنا المكان وماذا فعلنا بالمكان..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern