المسيحيون العرب.. قضية أصبحت تفرض نفسها علينا بإلحاح.. فلقد طرح تفجير كنيسة سيدة النجاة فى العراق الأسبوع الماضى، السؤال مجددا عن أى مستقبل ينتظر «مسيحيى المنطقة؟».. وبات من الضرورى الانشغال به من قبلنا جميعا دون استثناء، حيث لا مفر من الإجابة عنه بكل أبعاده وملابساته.. فعلى الرغم من أن هذه الإشكالية قد تم طرحها منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضى تحت عنوان كبير هو: «المسيحيون العرب والمستقبل»، من قبل مثقفين معتبرين مثل قسطنطين زريق (راجع المسيحيون العرب والمستقبل العربى مايو 1981) وكمال الصليبى، ووجيه كوثرانى ورضوان السيد وغيرهم.. إلا أنه وكعادتنا لم نلق بالا لهذه الإشكالية حتى وجدناها وقد استفحلت وصارت واقعا مؤلما.
المشكلة أعقد من أن تكون دينية محض
بداية نؤكد أننا ننطلق من رؤية تتجاوز الدينى إلى الاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى رؤيتها لمشكلة مسيحيى المنطقة.. أو ما يمكن تسميتها بالرؤية «المجتمعية أو السياقية».. أو بلغة أخرى فإننا نتبع منهجية تميل إلى رؤية المشكلات فى سياقها المجتمعى.. ولقد كان قسطنطين زريق محقا عندما وضع مبكرا، إطارا للمسألة، أظنه صحيحا وصالحا إلى يومنا هذا، وذلك بقوله إن المشكلة الأساسية عندما نتكلم عن مسيحيى المنطقة ومستقبلهم ليست بين «المسيحية والإسلام، ولا بين المسيحيين والمسلمين بصفة مطلقة، وإنما بين الرجعيين والتحرريين، فى هذا الجانب أو ذاك. وتتعقد هذه المشكلة، ويسود وجه المستقبل ويشتد خطره كلما قويت قوى الرجعية فى أحد الجانبين أو فيهما معا. وعلى العكس تهون المشكلة ويخف الخطر ويزهو وجه المستقبل كلما قويت التحررية فى أحد الجانبين أو فيهما معا».
بهذا المعنى لا يمكن أن نحيل سبب الغياب المسيحى إلى سبب وحيد فهناك من يرجع المسألة إلى:
تصاعد حركات الإسلام السياسى التى أعادت النظر فى الوضع القانونى لغير المسلمين، والتى باتت تستخدم العنف المادى فى ضوء ذلك، وهناك من يحيل الأمر إلى:
فعل النظم الشمولية وتعثر ترسيخ مفهوم المواطنة التى تعنى المساواة الكاملة والانسداد السياسى، وأخيرا هناك من يشير إلى:
أثر الخيارات غير الصائبة من المسيحيين أنفسهم.إلا أننا نميل إلى الأخذ بكل ذلك معا.
وعليه وفى ضوء ما سبق سوف نجد كيف أن المسيحيين فى المنطقة قد تراوحوا بين الحضور والغياب حسب السياق المجتمعى.. ويمكننا أن نرصد هذا التراوح بوضوح من خلال المراحل الثلاث التالية:
أولا: مرحلة النضال الوطنى: حيث ساهم المسيحيون مع مواطنيهم من المسلمين فى مواجهة المستعمر، وتفاعلوا مع الحراك الوطنى البازغ، وكانوا من مكوناته الأساسية.
ثانيا: مرحلة ما بعد الاستقلال: حيث ساهموا فى بناء الأوطان، ولكن بفعل ما واجه مشروع الاستقلال والتعثرات التى طالت بناء الدولة الحديثة من تحديات تراوح حضورهم بين الفاعلية والانكفاء الدينى.
ثالثا: مرحلة التوترات الدينية والمذهبية: حيث تراجع الحضور المسيحى.
وعلى الرغم من أن ما أصاب المسيحيين فى المنطقة قد طال المسلمين أيضا، مما يعنى أن الإشكالية أعقد من أن تكون دينية محض.. إلا أنها كانت مؤثرة لدى المسيحيين نظرا لعددهم فغابوا.
المسيحيون بين الغياب والتغييب
يمكن القول إن ما آل إليه الوضع المسيحى فى المنطقة قد تراوح بحسب ما كتبنا مرة بين: «الغياب والتغييب»..
«الغياب الإرادى» سواء بالهجرة إلى داخل الأوطان أو إلى خارجها.
أو يتم «التغييب القسرى» بالاستبعاد والتهميش أو بالحضور المشروط أو المواطنة المنقوصة.
«غياب وتغييب»، تسببنا فيهما جميعا بغير استثناء.. وذلك نتيجة عوامل عدة متداخلة منها: التصورات التى طرحتها جماعات الإسلام السياسى منذ مطلع السبعينيات، هذا بالرغم من اجتهادات فقهية معتبرة حاسمة تقر بالمواطنة للمسيحيين.. كما ساهم الانسداد السياسى وفشل دولة ما بعد الاستقلال فى تأسيس القنوات القادرة على استيعاب التنوع من جهة، والقبول بأن الصراع بين مكونات الجماعة ليس دينيا وإنما اجتماعيا اقتصاديا.. فالقطعى أن ميسورى الحال من المنتمين لهذا الدين أو ذاك، يكونون أكثر قربا من بعضهم البعض، وعلى العكس يترجم أبناء الشرائح الوسطى والدنيا أسباب الظلم لاعتبارات.. وأخيرا نأتى لخيارات المسيحيين أنفسهم الذين يرضون بالعزلة الحذرة فى إطار الانتماء الأولى واعتبارها مجال حركتها الأساسى والميل إلى «اختراع الملة» (راجع مقالنا من اصطناع الأقلية إلى اختراع الملة بجريدة الشروق فى 5/7/2010) والاستظلال بها.. أو الخروج الآمن من الأوطان.
مسيحيو المنطقة: رؤيتان
فى الحالتين: «العزلة الحذرة» أو «الخروج الآمن».. حدثت هجرة من المجتمع بدرجة أو أخرى.. زاد من الإحساس بها الهجرة الخارجية التى جرت بشكل متسارع ووصفها البعض بالنزيف (على الرغم من إدراكنا أن ظاهرة الهجرة قد طالت الكل دون تمييز).. بيد أن هذه الظاهرة بالرغم من طرحها للنقاش على أكثر من صعيد إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافى حتى وصلنا إلى لحظة الحقيقة واكتشفنا فيها أن العراق والقدس وقد كادتا أن يفرغا من المسيحيين.. وأن لبنان وسوريا ومصر والأردن ليست بمنأى عن هذه الظاهرة.
وأذكر فى هذا المقام كيف نوقشت قضية الوجود المسيحى فى الداخل والخارج منذ التسعينيات (معهد أنييللى الإيطالى للدراسات ومعهد العالم العربى وجمعية سانت إيجيديو والجامعة الإنجيلية بألمانيا).. وتخصيص النهار اللبنانية ملحقها الأسبوعى الثقافى (يناير 1998) ملفا بعنوان: «أوقفوا هجرة مسيحيى الشرق!».. شارك فيه من مصر الراحل محمد سيد أحمد، وميلاد حنا، وكاتب هذه السطور.. ومؤخرا منذ شهرين مركز عصام فارس والفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى بالاشتراك مع مركز الدراسات الحضارية بجامعة القاهرة.. بالإضافة إلى كثير من البحوث والكتب التى صدرت إبان هذه الفترة (منها مسيحيو الشرق لكلود لورييه، وأطلنطا الغارقة لبيار روندو.. الخ).. بالإضافة لجهات كنسية قاربت الموضوع مثل مجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس البطاركة الكاثوليك فى الشرق ومؤخرا الفاتيكان.. إلخ.
وفى هذا السياق نشير بإيجاز إلى رؤيتين مسيحيتين تبلورتا لمواجهة هذه الإشكاليات.. الأولى تعتمد على الخبرة الحية للمسيحيين عبر التاريخ وعلى لاهوت منفتح يمكن أن نطلق عليها «الرجاء الحى» تقول إن الحضور المسيحى شهادة ورسالة بالرغم من أية تحديات، وأن الجذور المسيحية للمنطقة تستحق الدفاع عن الوجود المسيحى من خلال الشراكة والحضور الفاعل ولا ترى تناقضا بين العضوية فى الكنيسة وبين المواطنية، وأن الكل يعانى من نفس المشاكل من الاستبداد والاستغلال والمصالح السياسية ومن ثم لابد من النضال المشترك من أجل تجاوز المعاناة المشتركة وبناء الدولة الحديثة.. إنها رؤية تثق فى المستقبل وفى قدرة الناس الحية على إمكانية تجاوز الواقع.
أما الرؤية الثانية والتى يمكن أن نطلق عليها «أطلنطا الغارقة» استعارة للكتاب الذى يحمل نفس العنوان تتناقض مع ما سبق وتقول بضرورة الانكفاء وتمايز الهوية عن المحيط الذى تعيش فيه، ولديها تحفظات كثيرة على الواقع، وتخاف أن تلقى مصير أطلنطا.
قضية المسيحيين قضية تخص مستقبلنا كله
واقع الحال لابد أن ننشغل بهذا الموضوع ليس من منطلق دينى وإنما من منطلق حضارى.. وندرك أن ما يهدد الجزء هو فى الواقع تهديد للكل.. إن المظاهر التى تم التحذير منها مبكرا والتى تطل بقوة هذه الأيام خاصة فيما يتعلق بتناقص أعداد مسيحيى المنطقة، تعطى ذريعة كما كتبنا مرة للذين يحاولون إثبات عدم قدرة منظومتنا الثقافية على استيعاب التنوع.. ومن ثم باتت مهمتنا إبطال أسباب التغييب والغياب.. ونختم بما قاله قسطنطين زريق عام 1981» إن مشكلة المسيحيين العرب، بصفتهم أقلية فى المجتمع العربى الذى تنتمى كثرته إلى الإسلام، هى مشكلة تشترك فى مسئوليتها الأكثرية والأقلية، ولا يمكن أن تحل حلا جذريا إلا بتحولات جذرية فى الجانبين معا، وذلك بالإقبال على بناء مجتمع قومى على أساس مصلحة الشعب ومنجزات العلم والحضارة والمساواة القانونية والعملية بين المواطنين والعدالة بينهم، والتحول من تسييس الدين إلى تقصى جوهره الروحى.. والواقع أن الحديث عن المسيحيين والمستقبل يفتح قضية العرب بكاملها وقضايا المستقبل بمجموعها.