من الملاحظات المهمة التى سجلها الموسوعى الكبير لويس عوض، فى معرض حديثه عن الأدب والفن فى فترات الأزمة والتدهور هو وجود «فن/أدب قديم لا يريد أن يموت، وجديد لا يستطيع أن يولد».. فأنصار القديم يستميتون بكل ما لديهم من سطوة مالية وتنظيمية فى استمرار ما هو قائم لأسباب تتعلق بالمصالح من جهة، كذلك عدم قدرتهم على فهم المستجدات وأن مضمون الحياة يتغير من تحتهم ومن حولهم بسرعة تتجاوز قدرتهم على التطور من جهة أخرى.. ولأن هناك واقعا جديدا يتبلور قوامه كتلة شبابية تقع تحت سن الخامسة والعشرين تصل إلى نصف المجتمع وجدناهم يعبرون عن أنفسهم بإبداع وكانت مادة فنهم حياتهم نفسها.
الفن للحياة
فى هذا السياق استمعت لأغانى الألبوم الجديد لعلى الحجار: «ضحكة وطن»، وأدركت أن الفترة الطويلة التى امتدت لعقود وظننا فيها أن الحياة راكدة كانت فترة كمون لانطلاقة كبيرة حدثت ولم تكتمل بعد. بيد أننا اكتشفنا أن الفن الذى كان سائدا ينقسم إلى نوعين. أولا الفن الرسمى، الذى تكون أعماله بالأمر المباشر فى أوقات روتينية وبشكل نمطى وترص فيها الكلمات بلا روح وتلحن هذه الكلمات بصورة مهنية لا جمال فيها. وثانيا الفن الاستهلاكى الذى واكب اقتصاد السوق /السوء. وهو الفن الذى استباح كل شىء بشكل سافر فى فوضى غير مسبوقة. وبين هذين الفنين كانت هناك محاولات ــ تحاول أن تجد لها طريقا ــ للاحتفاظ بأفضل ما فى تراثنا حاضرا من جهة ومقاومة البعض لتقديم الفن المتميز إلا أن الفن المتميز دائما لابد له من رافعة مجتمعية لرفعه ودولة ناهضة توفر كل السبل لدعمه. إنه الفن الذى ينقل الناس إلى الأمام ويضيف إلى وعيهم ويدفعهم إلى بناء الوطن وفى نفس الوقت يحقق لهم المتعة والانسجام، فلا تعارض على الإطلاق.
إن هذا الفن المتميز هو الفن الذى كان يطلق عليه لويس عوض «الفن للحياة». الفن الذى يخرج من الناس ويقدم لهم ويجمع بين المضمون والمتعة. ليس هو الفن الدعائى وليس هو الفن الاستهلاكى الوقتى سريع التبخر الذى يقدم لفئة قادرة فى صالونات شبكة الامتيازات المغلقة، حيث الفن المعقم الذى ينتقل فيه الفنان إلى من يدعوه عبر وسائل الانتقال الخاصة التى ترسل له وتأتى به إلى الصالونات.
أبناء الفن للحياة الذين ظلوا يقاومون انطلقوا مع انطلاقة 25 يناير واكتشفنا ما لديهم من زخم فى الميدان الذى حمل اسم الحرية وكان يمنح من الاسم فعلا للتحرر لكل من آمن بالجديد.
فن مصر الجديدة
تأتى أغانى على الحجار لتعبر عن فن الميدان وعن الحرية التى خصص لها أغنية وقت الكمون والتحضير. أغانى «من لحم ودم» لأنها تعبر عن أناس مارسوا الفعل الثورى ودفعوا ثمنه. فعل ثورى شارك فيه كل المصريين دون تمييز. وبحسب الخال الأبنودى:
سجانك المحتار فى أوصافك
مهما اجتهد ما يعرف انت مين
مصدر الحيرة أنه على مدى عقود قد تم دفع المصريون إلى دوائر الانتماء الأولى، حيث الاستبداد يسهل له أن يتعامل مع كل دائرة بمعزل عن الأخرى ومن خلال كبير هذه الدائرة ولم يدرك الاستبداد الذى كان يحمى شبكة امتيازات مغلقة أن هذا فيه تدمير للدولة الحديثة التى تقوم على تجاوز دوائر الانتماء الأولية لتستوعب المصريين فى الإطار الجامع. وبالفعل لم يدرك ــ وربما البعض إلى الآن ــ كيف يستقيم أن يتحرك إلى الميدان الشيخ عماد عفت ومينا دانيال. لقد تحركا وقدما أنفسهما فداء للوطن لأن الوطن يحتاج أن يتحرر من الظلم والفقر والجهل، كانت هذه هى أحلامهم والدين الحق هو فى جعل هذه الأحلام حقيقة والتى كانوا يعتبرونها حقوقا. وحقوقا بسيطة. وهنا تأتى عبقرية ما قدمه على الحجار فى تجسيد الزخم الحى لما جرى فى 25 يناير الذى جعل من الأغانى أغانى بالفعل من «دم ولحم».
فالحرب / والثورة اللى خاضوها بجسارة
كانوا مصريين مسلمين ونصارى
وننطلق مع أغانى على الحجار لنسمع ونشاهد ونعرف وندرك ما جرى من أجل أن تتحرر مصر ومن ماذا؟
يا دمعة الأوطان ساعة ما تتحرر
يا ضحكة الإنسان يا نسمة الأزهر
الله يا شيخ عماد يا حلو الاستشهاد
املأ سما القاهرة بذكر رب رحيم
واطلب لنا المغفرة من كل ذنب أثيم
يابو القلب السليم
يا غنوة المظاليم
الشيخ عماد الذى كنت أتمنى أن أعرفه لما سمعته عنه عقب استشهاده كان نموذجا مثاليا لما يجب أن يكون عليه رجل الدين. رجل الدين المهموم بإطلاق وعى الناس وتحررهم الداخلى ليس من أجل أن يسيطر عليهم ولكن من أجل أن يتولوا أمر أنفسهم بأنفسهم لأنهم يقدرون على ذلك ولا يصح أن يكونوا تابعين. لذا كان دائم التوارى لا يبحث عن نجومية أو شهرة انحاز للمظلومين ولإسلام الخبرة المصرية كان عالما حقيقيا وبشوشا وحاضنا لكل الثوار على اختلافهم.
وفى المقابل يأتى مينا دانيال الذى يصفه محبيه «بجيفارا المصرى» ليس بأحلامه البسيطة ــ فقط ــ ولكن الطبيعية والتى أظنها تعد تصويبا لمنطق فرض علينا فرضا ويتنافى مع التاريخ ألا وهو أن أن القباط لابد أن ينعزلوا أو أن تتحدث بالنيابة عنهم المؤسسة الدينية تكريسا للملة التى لم تعرفها مصر. فلقد فهم الاستشهاد بأنه لابد أن يكون من أجل الوطن والغلابة الذين يعيشون فيه وكما تقول الأغنية:
شهيد وشد لها الترحال
هواللى حب وما كرهشى
على الظلم ما قدرشى
هو اللى مفطوم على خيرها
وضميره يشبه ضميرها
كان كل أمله فى تغييرها
أحلام بسيطة وعيشة حلال
هو اللى صلى فى جمعتها
وقاد ونور شمعتها
ولا ينسى الحجار مصابى الثورة ويقدم أغنية لأحمد حرارة الذى فقد عينيه ولكن نور الثورة سيعم ويضىء ويمتد. وهنا يقول الحجار:
فى كل شارع وفى كل حارة أهتف وأنادى مصر بجسارة
وأقول يابلدى يفديكى ولدى وعيونه فيكى مش خسارة
لو ضى عينى ما زرش عينى والدنيا نورها كله يجافينى
أنا ضى روحى وضى قلبى مصرى واسمه أحمد حرارة
أنه كما قلت فن من لحم ودم. وعلى الفن الذى مدده ومداده الحياة أن ينطلق ويعم والذى نجد تجلياته فى كل مكان أن يستمر حتى نبنى مصر الجديدة.
ونذكر فى النهاية كلمات ضحكة المساجين:
الثورة نور
واللى طفاها خبيث
يرقص بين شهدا ومحابيس
والدم لسه مغرق الميادين
الحزن طايح فى قلوبنا بجد
ما فضلش غير الشوك فى شجر الورد
غلط الربيع ودخل فى أغبى كمين
ورغم كل ذلك تؤكد الأغنية إن اللى:
يقف فى وش ثوارها
ما هاحيورث إلا ذلها وعارها
ومصر عارفة وشايفة بتصبر
لكنها فى خطفة زمن تعبر
وتسترد الاسم والعناوين
تحية لكل فن يعبر بنا إلى مصر الجديدة..