عن المستقبل .. دولة الرفاهة التنموية

مرة أخرى نحاول التطلع للمستقبل، ففى حديثنا السابق تحدثنا عن المواطنة، وأكدنا على أن المواطنة التى يجب أن نعمل على تحقيقها مواطنة ترتبط باقتصاد إنتاجى وتتجسد من خلال المساواة والمشاركة ومنظومة حقوق وتقاسم الثروة العامة للبلاد.

وهو تصور يتجاوز الدستورى والقانونى إلى الاجتماعى والاقتصادى، كما يتجاوز التعريفات الحصرية كربط المواطنة بالانتماء وهو ما يعرف بالمواطنة فى بعدها الشعورى دون غيرها.

ولأن المواطن لا يتحرك فى فراغ بل يتحرك فى بناء اجتماعى وطبقى وفى ظل موازين قوى وفى دولة فإنه لا مواطنة فى الواقع إلا بحركة مواطنية تجعل من موازين القوى قابلة لتجسد المواطنة بعناصرها وتعيد تشكل البناء الاجتماعى بما يسمح للمواطنة أن تكون للجميع لمن يملك ولا يملك وللرجل والمرأة وللأجيال وللمختلفين دينيا، ومكانة. . إلخ. بيد أنه لا يمكن الحديث عن المواطنة وحركيتها دون الحديث عن الدولة كإطار تتفاعل فيه هذه الحركة. ولكن عن أى دولة نتحدث؟ وهنا لابد من الاقتراب من طبيعة الدولة ومستقبلها؟
عن أى دولة نتحدث؟

التقدم هو هدف الشعوب، ولا تقدم من دون دولة. ولكن عن أى دولة نتحدث. هل دولة الرفاهة التى تأسست بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى فى سنة 1929 من القرن الماضى. أم الدولة التنموية التى جرى الحديث عنها فى الخمسينيات. أم الدولة التى أخلت الملعب للسوق واقتصادها. أم عن دولة تتفق وتطلعات مواطنينا فى مستقبل أفضل. أظن أنه آن الأوان لطرح هذه النوعية من الإشكاليات بعد أن أُستهلكنا فيما هو سطحى من النقاشات والهامشى من الموضوعات، خاصة أن هناك من التجارب والنقاشات الجدية التى استطاعت أن تقدم نموذجا متميزا لدولة تصنع صيغة ذات طبيعة مركبة للدولة من النماذج التى أشرنا إليها كما سنرى لاحقا. وفى عجالة نرصد النماذج التى طرحت من الدول خلال مائة عام.
دولة الرفاهة

دفعت أزمة 1929 إلى فتح آفاق جديدة حول المساواة كان هدفها المواطن. الأمر الذى فرض مسئوليات على الدول فطورت الدول من سياساتها الاجتماعية وآلياتها فى دعم المساواة فى الحقوق Equality in Rights، التى لا تعنى المساواة فى الطبقة Equality in Class؛ ويعنى هذا أن من لا يملك من حقه أن يحظى بكل ما يحظى به من يملك من خدمات وفرص متكافئة.

فى ضوء ما سبق، اختارت دول «أوروبا الغربية» الخارجة من الحرب العالمية الثانية الأخذ بما عرف «بدولة الرفاهة» Welfare State، حيث المواطن هو موضوع وهدف كل تنمية.

وفى هذا السياق، عرف الغرب ثلاثة نماذج من دولة الرفاهة (من منظور أدبيات المواطنة) التى تحاول تأمين المساواة وفق ظروفها وسياقها الاجتماعى وذلك كما يلى:

أولا: النموذج الديمقراطى الاجتماعى:

النموذج الشائع فى الدول الاسكندينافية (السويد والدنمارك والنرويج) حيث تقوم فيه الدولة بتوفير الخدمات لمواطنيها من دون تمييز. ومن منطق «لا سلعى» أى أن هذه الخدمات ليست سلعا تباع للمواطنين وإنما حقوقا.

ثانيا: النموذج المحافظ الكوربوراتى:

كما فى فرنسا وألمانيا حيث الخدمات غير مرهونة بقيمتها فى السوق، لكنها ليست بالضرورة شاملة لجميع الأفراد. ويرتبط مقدار ونوعية المعونة التى ينتفع بها المواطنون المستحقون بحسب وضعهم الاجتماعى.

ثالثا: النموذج الليبرالى:

حيث تغلب فيه على خدمات الرفاهة طابعها التجارى فى السوق، كما فى أمريكا وبريطانيا

الدولة التنموية

 عقب الحرب العالمية الثانية استقلت الكثير من الدول وبدأت طريقها فى بناء ذاتها وتراوحت هذه الدول دول العالم الثالث فى خياراتها. وتبنت هذه الدول ما يعرف «بالدولة التنموية»، ولكن اختلف التطبيق حيث تعثر لدينا ولكنه نجح فى دول شمال شرق آسيا: اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين.

وأول من أطلق هذا المصطلح هو الأمريكى شالمرز جونسون على التجارب الآسيوية (هناك من أطلق نفس المصطلح على أمريكا اللاتينية فى القرن التاسع عشر).

ويشير جونسون إلى أن الدولة التنموية تتبلور نتيجة تفاعل نظامين لاحظ تفاعل عام وخاص، بين الدولة والقطاع الخاص، حيث الدولة معنية بتحديد أهداف التنمية، والقطاع الخاص معنى بتعظيم أرباحه. وتتميز الدولة فى هذا النموذج بقدرة إدارية هائلة، وكفاءة فى توجيه الاقتصاد.

كما لديها الحق فى حجب المزايا والحوافز إذا ما خرج القطاع الخاص عن أهداف التنموية القومية. كما أن هذه الدولة تحرص على توافر القدرة التنافسية للاقتصاد الوطنى أى القدرة على تصنيع صناعات قادرة على التنافس مع المنتجات العالمية.

فى هذا السياق، نجحت كثير من الدول الأسيوية ليس كلها كدول تنموية، وتعثرنا نحن. وذلك لغياب طبقة قوية من ملاك الأرض، الأمر الذى أتاح الفرصة لانطلاقة تنموية صناعية أو ما يعرف بالتحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، وهو الأمر الذى لم يحدث فى إندونيسيا على سبيل المثال (بحسب محمود عبدالفضيل). 
وعلى الرغم من أن الدول التى أخذت بنموذج الدولة التنموية نجحت فى تقدم شعوبها إلى أن هناك ملاحظات طالت هذا النموذج بأنها عنيت بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية على حساب التنمية السياسية بخاصة فى كوريا والصين.

بيد أن هناك نقاشات واسعة تجرى الآن لا يتسع المجال لذكرها لدينا عشرات الكتب تقارب هذا الموضوع بأن هذه الملاحظات ليست بالدقة الكافية. وأن التقدم ما كان ليحدث ما لم تحدث انفراجات سياسية بدرجة أو أخرى.
(لا) دولة اقتصاد السوق

إبان ما كانت دول العالم الثالث تأخذ بالدولة التنموية من خلال تنويعات مختلفة، ظهرت السياسات الليبرالية الجديدة. وكانت هذه السياسات على حساب الدولة. فلقد أضعفت بشدة دور الدولة وترك الأمر للسوق وهو ما أدى إلى الكثير من الإخفاقات والفضائح واستشراء الفساد وسيادة الاحتكار والرشوة والعمولات (فضيحة إنرون وما شاب عملية خصخصة السكك الحديدية فى بريطانيا وشبكات الكهرباء فى كاليفورنيا. . إلخ).
فلقد حجمت وصفة المؤسسات الدولية دور الدولة. وصفة ثبت فشلها مع الأزمة المالية الأخيرة. الأمر الذى أعاد النقاش عن أى دولة نريد. فبدأ الحديث عن دولة «الرفاهة التنموية».

دولة الرفاهة التنموية

 المتابع لخبرة المجتمعات الحية أقول الحية أى دائمة النقد لنفسها والساعية للتطور وعدم الركون إلى ما هو قائم حيث ليس فى الإبداع أفضل مما هو قائم، نجدها ترفض نموذج اقتصاد السوق حيث «اللادولة». وفى نفس الوقت تأخذ بصيغة هجين بين نموذج «الدولة التنموية» و«دولة الرفاهة». وفى كتاب حديث صدر عقب الأزمة المالية العالمية الأخيرة عنوانه «أمريكا اللاتينية: نموذج لدولة الرفاهة التنموية فى عداد التشكيل».

حيث يتناول كل من البرازيل وتشيلى والأرجنتين والمكسيك وكوستاريكا والأوروجواى من خلال الجداول والإحصائيات كيف استطاعت أن تحقق المعادلة الصعبة فى التقدم الاقتصادى والقبول بالتحولات التى تجرى فى البناء الاجتماعى التى تطال علاقات النتاج.

فلا تحول اقتصاديا حقيقيا (اقتصاد إنتاجى) دون تحولات اجتماعية وطبقية. وفى نفس الوقت الدخول فى عملية ديمقراطية حقيقية تسمح بتداول سلمى للسلطة ويمكن مراجعة البرازيل وتشيلى؛ فتشيلى بعد حكم لليسار لأكثر من حقبة جاء حكم يمينى لم يغير مما تم انجازه فى حكم ممن سبقه.

لقد استطاعت هذه الدولة أن تدمج بين السياسات الاجتماعية والسياسات الاقتصادية. بتأمين الضمانات الاجتماعية والخدمات العامة، وارتفاع معدلات النمو والتوظف والاستقرار النقدى النسبى، وزيادة مستوى المعيشة»، وترسيخ حالة ديمقراطية، يكون فيها للفرد دور حقيقى.

وانطلقت فى كل قراراتها من تحليل مجتمعى شامل. لقد كان الخيار هو بناء دولة مجتمع يقوم على سلسلة مترابطة تنموية ديمقراطية اجتماعية. فلا يوجد عنصر مؤجل؛ اقتصاد أولا ثم ديمقراطية، ولا يوجد ملف مؤجل وإنما دولة الرفاهة التنموية دولة تغييرية ديناميكية متجددة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern