مرحباً بالطبقة الوسطى

أسابيع ثلاثة غيرت الكثير فى مصر. البعض يصف ما حدث بأنه ثورة، والبعض يصفه بأنه انتفاضة أو هبة. وبغض النظر عن توصيف ما حدث بدقة، فهو أمر متروك للدراسات المعمقة القادرة على فهم ما طرأ على علاقات القوة فى مصر وإلى أى مدى تأثر ومن ثم تحديد توصيف دقيق لطبيعة الحراك الشبابى الشعبى الذى رأيناه. ومهما كانت نتائج الدراسات المعمقة، فإن الأكيد أن مصر قد طالها تغيير ما، تعددت ملامحه. فبالإضافة إلى كسر حاجز الخوف وانتقال عملية التغيير إلى أن تبدأ من أسفل وليس من أعلى، وتوظيف التقنيات الرقمية لإحداث التغيير.. الخ، نجد أن من أهم ما يمكن رصده ويعد ملمحا أساسيا للمشهد النضالى الذى شهدناه خلال الأسابيع الماضية ويصعب التغافل عنه ويجب أن نرصده فى هذا المقام هو عودة الطبقة الوسطى بشرائحها إلى الحياة السياسية المصرية…

الطبقة الوسطى: إقصاء سياسى واقتصادى

فلقد أدى الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة التى تقوم على اقتصاد السوق والخصخصة، منذ الثمانينيات إلى تدهور الوضع الاقتصادى للطبقة الوسطى، وهو ما دفع أستاذنا الراحل رمزى زكى أن يقول عبارته المهمة فى نهاية التسعينيات: «وداعا الطبقة الوسطى». ويعود هذا التدهور إلى عوامل ثلاثة. أول هذه العوامل هو انخفاض الأجور. والثانى؛ فقدان فرص العمل وزيادة معدل البطالة. أما ثالث هذه العوامل فيعود إلى زيادة الأعباء المالية التى تتحملها هذه الطبقة. والنتيجة أن حدثت عملية إقصاء لهذه الطبقة بمستوياتها الثلاثة. إقصاء سياسى للشريحة العليا من الطبقة الوسطى وإقصاء سياسى اقتصادى للشريحتين المتوسطة والدنيا من الطبقة الوسطى.

فالشريحة العليا من الطبقة الوسطى، التى تتميز بارتفاع دخولها استفادت نسبيا من الليبرالية الاقتصادية. إن غالبية من ينتمون لهذه الشريحة هم من المهنيين الذين كانوا يرفعون أسعار ما يقدمون من خدمات الأمر الذى أتاح لهم بعض من الفائض كانوا يعيدون توظيفه سواء من خلال ودائع بنكية يستفيدون من ريعها أو الدخول فى مشروعات استثمارية معقولة توفر لهم بعض الفائض. ولكنهم حرصوا على الابتعاد عن السياسة خاصة أن الاتجاه العام كان يسمح بالليبرالية الاقتصادية دون السياسية.

أما الشريحة المتوسطة، فقد ساء وضعها الاقتصادى والاجتماعى بشكل واضح وتعرت هذه الشريحة ولم تعد «مستورة»، ذلك لأنها تعتمد على دخول ثابتة. وكان التضخم والارتفاع الدائم للأسعار وعدم توافر فرص التوظف عوامل أدت إلى تدهور هذه الشريحة.

أما عن الشريحة الدنيا فحدث ولا حرج حيث وبحسب رمزى زكى «هوت بهم السياسات الليبرالية الجديدة إلى الحضيض».

شرائح الطبقة الوسطى: بين التخديم على القلة الثروية والتخلى عنهم للمبادرات الخيرية

لم يحرك النظام ساكنا أمام ما يراه من تراجع للطبقة الوسطى، فلقد كانت رؤيته محدودة وقاصرة تجاه هذه الطبقة. فإذا ما عدنا إلى البرنامج الرئاسى الانتخابى الذى قدم فى 2005، وراجعنا ما تضمنه حول «الطبقة الوسطى»، نجده أولا يقصد بالطبقة المتوسطة «المهندسون والأطباء والمدرسون والمحاسبون، والأسر التى يعمل الأب والأم فيها، والشباب الذين يعملون فى الأنشطة الاقتصادية والخدمية الحديثة: فى البنوك وتكنولوجيا المعلومات وأصحاب المشروعات والأعمال الصغيرة إلى العاملين فى الدرجات المتوسطة فى الجهاز الحكومى والكتاب والعاملين فى الصحافة والإعلام والأجهزة القضائية إلى شباب الأكاديميين». وثانيا نجد البرنامج يهدف إلى: «زيادة القدرة الشرائية لدخل الطبقة المتوسطة ومساعدتها فى امتلاك مسكن بسعر معقول، من خلال أمرين هما: زيادة الدخل الحقيقى لهذه الطبقة للحصول على قدر أكبر من السلع والخدمات من جهة، وزيادة الخيارات المتاحة أمام هذه الطبقة».

مما سبق يتضح لنا كيف كان تعريف الطبقة الوسطى قاصرا على الشريحة العليا منها، وتحديدا شريحة المهنيين دون ذكر للشريحتين الوسطى والدنيا. وفى نفس الوقت ولأن نمط الاقتصاد يميل إلى أن يكون ريعيا فإن الحراك الاجتماعى للطبقة الوسطى يكون محدودا. ويصبح دور الطبقة الوسطى هو «التخديم» على القلة الثروية. فالمدرس أو المهندس أو الطبيب يقدم خدماته ومعرفته للقلة الثروية نظير أى مقابل يتم تحديده دون أن يترتب على ذلك حضور سياسى للتعبير عن أنفسهم. أى يمكن للشريحة العليا من الطبقة الوسطى أن تستفيد ماليا ولكن دون أن تتاح لها شراكة سياسية. وهو ما وصفه أحد الباحثين «لقد قُدم لهذه الشريحة ما يمكن تسميته بديمقراطية الاستهلاك، كبديل لديمقراطية القرار السياسى». فوجدت هذه الشريحة نفسها تستهلك وباطراد سلعا وخدمات فى إطار ائتمان مفتوح، ينبغى تسديد دفعاته وبفوائد مركبة. (لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتابنا المواطنة والتغيير).

أما الشرائح المتوسطة والدنيا فقد كان الاتجاه العام أن تخلت الدولة عن تأمينهم وتركتهم للمبادرات الخيرية والمؤسسات الدينية والاجتماعية لتؤمن لهم احتياجاتهم.

المحصلة، أن الرؤية السائدة من قبل الليبراليين الجدد للطبقة الوسطى، يجعل من ينتمون إليها «محلك سر»، ليس من زاوية زيادة قدراتهم الشرائية وامتلاكهم مسكنا، وإنما من زاوية الحضور فى الهيكل الاقتصادى القائم، وهو ما يعكس حالة السيولة الاجتماعية بحسب محمود عبدالفضيل حيث يقول إن «الأثرياء الجدد كونوا ثرواتهم من خلال مجالات التداول والوساطة والمقاولات والعلاقة برأس المال الأجنبى، وليس من خلال عمليات التراكم الإنتاجى الإنمائى.. وعليه ترهلت الطبقة الوسطى وتشرذمت وفقدت جانبا كبيرا من قوة شكيمتها وكبريائها وضاق بها الرزق وفقدت مكانتها الوظيفية والاجتماعية المتميزة، فأصبحت طبقة منهكة».

«الطليعة الشبابية الرقمية» ــ « النواة الناعمة» للطبقة الوسطى

مع مرور الوقت لم يلتفت أولو الأمر إلى أن هناك «كتلة شبابية طالعة» فى إطار الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، تمكنت، وبسبب بعض من الفائض المالى، أن تتلقى تعليما طيبا وأن تنطلق فى تعاملها مع التقنيات الرقمية وأن تواجه الانسداد السياسى والمدنى فى الواقع بأن تفتح آفاقا ممتدة فى إطار «المجال الرقمى» ممارسة «المواطنة الرقمية» Digital Citizenship أو ممارسة المواطنة من خلال شبكة الانترنت بتقنياتها المتنوعة وهو ما يعلن عن ميلاد «مواطن الشبكة» أو Netizen إن جاز التعبير. (تناولنا هذه الظاهرة فى مقال لنا مبكر فى جريدة الشروق عنوانه: فاعلية الشباب بين المجالين الرقمى والعام 10 يوليو 2009).

لقد أوجد هؤلاء الشباب رأيا عاما للكتلة الشبابية الطالعة، وأصبحوا بمثابة «طليعة رقمية»، ومثلوا نواة ناعمة، تحدد القضايا والشعارات والتوجهات والتحركات حيث تبعتها الكتلة. وامتد تأثيرهم للشباب من أبناء الشريحتين المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.

وعليه كان المشهد الميدانى يضم كلا من شباب الشريحة العليا من الطبقة الوسطى بشعاراته التى تتعلق بالحريات، وسباب الطبقة الوسطى: المتوسطة والدنيا بمطالبهم الاجتماعية. وهكذا كان مشهد التغيير عنوانه: الحرية والعدالة الاجتماعية.

هكذا عادت الطبقة الوسطى إلى الحياة السياسية بفضل الطليعة الشبابية الرقمية ــ النواة الناعمة..

فمرحبا بها فى الجمهورية الجديدة والتى تحتاج إلى نقاش معمق حول مبادئها ومقوماتها ملامحها وركائزها.. بيد أنه فى كل الأحوال لا مناص من فتح النوافذ وتجديد المؤسسات وتفعيل المواطنة بلا قيود.. وفتح المجالات السياسية والمدنية بلا حدود أو شروط..

وفى هذا المقام أختم بكلمات توفيق الحكيم فى عودة الروح:

«.. تحرك الموكب العظيم فتدفقت موجاته تباعا مرددة الهتافات الوطنية، بدت مصر مظاهرة واحدة. بل رجلا واحدا، بل هتافا واحدا. تتابعت طوابير الطوائف (الفئات) طويلا، طويلا جدا..»…

«…لم يفهم أحد إذ ذاك أن هذه العاطفة انفجرت فى قلوبهم جميعا فى لحظة واحدة.. لأنهم أبناء مصر لهم قلب واحد..».

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern