هل التاريخ يعيد نفسه حقا؟ ولماذا يتكرر أسوأ ما فى التاريخ؟ وأين يكمن الخلل؟ ولماذا تمتد وتطول فترات الهبوط أكثر من الصعود فى مصرنا الحبيبة؟
هذه الأسئلة وأخرى كثيرة، وجدتنى أطرحها على نفسى بعد أن فرغت من قراءة «سفر» ــ هام جدا ــ فى أيام قليلة، عنوانه: «اقتصاديات الفساد فى مصر.. كيف جرى إفساد مصر والمصريين؟»، للأخ العزيز الدكتور عبدالخالق فاروق. الكتاب يعد من أهم ما كتب عن مصر المحروسة وماذا جرى فيها من ممارسات اقتصادية فاسدة فى شتى المجالات أدت فى المجمل إلى إفقار المصريين وانهيار قطاعات الدولة المتنوعة. وتأتى أهمية الكتاب فى أنه وثق بالأرقام وأصل بالعلم حصاد الخيار الاقتصادى الفاسد لأولى الأمر من 1974 إلى 2010.
الخراب المستمر لمصر المحروسة
لم أجد كلمة تعبر عن ما جرى فى مصر إلا كلمة «الخراب». ووجدت أنه عندما استعدت بعض الكتب حول هذه الموضوع أن الدكتور عبدالعظيم أنيس (أحد رموز مصر السياسية والفكرية) قد عنون مقدمة الطبعة الثانية من ترجمته لكتاب «بنوك وباشوات» لديفيد لاندز، بالعنوان التالى: «الخراب الحديث لمصر المحروسة» (الطبعة الأولى من الترجمة صدرت فى 1965، وصدرت الطبعة الثانية فى سلسلة كتب الأهالى بعد عشرين سنة فى أغسطس 1985).حيث أجرى فى المقدمة الجديدة مقارنة بين ما جرى فى مصر فى عهد إسماعيل منذ مائة عام أو ما يزيد قليلا (وقتها)، وبين ما جرى ويجرى فى مصر منذ الانفتاح السعيد الذى بدأ بعد حرب أكتوبر فى عهد السادات. ولم يجد سوى تعبير الخراب الحديث كى يصف ما يجرى آنذاك فى مصر من جراء الانفتاح.
لذا لم أجد تعبيرا يجسد ما جاء فى كتاب عبدالخالق فاروق سوى أنه «الخراب» والذى بقى مستمرا منذ السبعينيات وامتد واستشرى كالمرض العضال فى جسم القطاعات المتنوعة.
يستهل عبدالخالق فاروق كتابه، بتوضيح ماذا يقصد بالفساد وما هى الآليات التى يعمل بها ويوجز فى كلمات النتائج. يستعرض المؤلف تطور المفهوم وتداعياته من كونه ممارسة من جانب الأثرياء عادة، والمتنفذين فى الأجهزة الحكومية والشركات الكبرى محلية كانت أو دولية، تؤدى إلى ترسيخ لواقع الظلم الاجتماعى، وأداة من أدوات الاستقطاب الاجتماعى والطبقى، ليس على أسس الجدارة الاقتصادية والمهنية، وإنما على أسس أخرى مثل استغلال النفوذ والتعسف فى استخدام السلطة التنفيذية، أو حتى سلطة التشريع أو استخدام منصات القضاء فى غير محلها المرسوم فى القوانين والدساتير المختلفة للدول.. وهو ما يجعله يتحول إلى نمط عام وسلوك واسع الانتشار،ليس بين الطبقات العليا فحسب، وإنما إلى ما دون ذلك من فئات اجتماعية، مما يهدد مجمل فكرة حكم القانون، ليتحول المجتمع إلى ما يشبه الغابة دون قواعد تحكم السلوك ودون أخلاق تنظم العلاقات، وبتفشى «ثقافة الفساد» نصبح أمام كارثة مجتمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ويقول الدكتور عبدالخالق إن «الحالة المصرية قد ضربت الأرقام القياسية ــ مقارنة بالدول الأخرى ــ من حيث اتساع نطاق ومجالات الفساد التى انغمس فيها ــ بصورة شبه دائمة ــ كبار رجالات الدولة، وأبناؤهم». ويعدد المؤلف القطاعات التى امتد إليها الفساد كذلك القوانين الداعمة والممارسات المنبثقة. فمن القطاعات التى شابها الكثير من الفساد سوف نجد: المقاولات وتخصيص الأراضى وشقق المدن الجديدة والطرق والكبارى والبنية الأساسية، والاتصالات والهواتف المحمولة والثابتة، العمليات المشبوهة فى خصخصة وبيع الشركات العامة ونظم تقييم الأصول والممتلكات والأراضى المملوكة لهذه الشركات، النظم البنكية والائتمانية الميسرة لتهريب الأموال إلى الخارج، ونظم الاستيراد وأذون الاستيراد وبرامج الاستيراد السلعى، الإعفاء من أداء الضرائب العامة لبعض المؤسسات، ومنح علاوة الولاء، إضعاف الخدمات الرسمية التعليمية والصحية والأمنية لصالح الخدمات الخاصة المملوكة للأثرياء أو تقديمها للفقراء من خلال الإكرامية أو ما شابه… إلخ.
عملية فساد مركبة أدت إلى الثراء الفاحش للقلة، وإبقاء الفقراء أحياء من خلال اقتصاد غير رسمى أو سرى أو خفى أو أسود.. ساهم فى وجودها كل من: التشريع والتقنين والسياسات وتعطيل أجهزة الرقابة.
اقتصاد الفساد: خراب وموت ديار
تحت عنوان اقتصاد الفساد، يلقى المؤلف الضوء على المليارات المهدرة فى قطاعات: المقاولات والتشييد وتخصيص أراضى الدولة، والاستيراد والتصدير، والتجارة فى ديون مصر الخارجية شبه المعدومة، والخصخصة وبيع الشركات العامة، السلاح وعمولاته، المخدرات والعملات الأجنبية، والبترول والغاز، والمحليات والخدمات، وتهريب البضائع…الخ. ويوجز المؤلف بقوله: «ما إذا حاولنا تجميع ملامح الصورة الفسيفسائية ــ لاقتصاد الفساد ــ، والتى تكشف إلى اى مدى تعرض الاقتصاد والمجتمع المصرى، إلى حالة من تفكيك المفاصل. فإننا نشير إلى أن الأحجام الكلية لأموال وتدفقات هذا الاقتصاد تتراوح بين 57 مليار جنيه و70 مليار جنيه سنويا خلال العقد الماضى وحده (أى فى الـ10 سنوات الأخيرة) وهذا يكاد يعادل 17% إلى 20% من قيمة الناتج المحلى الإجمالى الرسمى خلال نفس الفترة. وبالإجمال، فإننا نكون إزاء ما يقارب 500 مليار جنيه مصرى جرت من خلف ظهر الحسابات القومية ومصفوفة تدفقات الدخل القومى الرسمية خلال السنوات العشر الماضية وهى كلها أموال لا يتم سداد ضرائب عنها، علاوة على ما ألحقته من أضرار على نمط توزيع الدخول.. إنها كارثة دون زيادة أو نقصان».
أو أنه الموت وخراب الديار.. هدر مالى غير مسبوق فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر ولا يقابله اى ميزة من اى نوع.. فلا حُلت مشكلة التعليم أو الصحة أو التشغيل أو السكن.
فى هذا السياق يستعرض المؤلف ظاهرة نواب القروض، والتى شبهها «بتشكيل عصابى» متكامل الأركان، بدأ نشاطه فى منتصف التسعينيات حيث فقدت مصر مليار جنيه فى أربعة بنوك. ثم ما تفجر بعد ذلك (سنة 2003) من هروب بعض رجال المال والأعمال المقترضين من البنوك المصريين بأكثر من 40 مليار جنيه، وما صاحبه من شلل كامل فى النظام المصرفى وتوقف غالبية المقترضين لديها عن السداد بحجة التعثر.. أخذا فى الاعتبار فساد الأوراق والضمانات التى تقدم للحصول على القروض من الأصل.. إنها عمليات نهب تكاد تكون منظمة..
فى المقابل كانت هناك عملية تكاد تكون منظمة ــ أيضا ــ لإهدار كل فرص التنمية التى توافرت لمصر على مدى عقود. فى البدء سوء استخدام الموارد المالية حيث ذهبت فى الأغلب لقطاعات استهلاكية أو دعم الأغنياء من خلال مشاركة القطاع الخاص فيتم تفكيك المال العام لصالح الخاص، وتكوين كيانات احتكارية محمية بالسلطة والأمن. ويكشف المؤلف النقاب عن أكذوبة الدعم، ولعبة الأجور فى مصر، وكارثة جمع الضرائب فى مصر ومن يتحملها فى الواقع.. وكيف ساهمت السياسات المالية فى خراب مصر.. بالإضافة إلى دراسة عدد من حالات الفساد الهامة..
اقتصاديات الفساد فى مصر لعبدالخالق فاروق الذى قدمه عالمان كبيران هما: نادر فرجانى ومحمد رءوف حامد.. مجلد فى حاجة لحوار وطنى جاد من أجل مصر أكثر عدلا تتجاوز ما دأبنا على الكتابة عنه السياسات النيوليبرالية.. الكتاب فى نظرى ينضم إلى مجموعة الكتب الأمهات فى هذا المجال مثل: تاريخ النهب الاستعمارى فى مصر لجون مارلو، والاقتصاد المصرى من الاستقلال إلى التبعية لعادل حسين، ومن يملك مصر؟ لسامية سعيد إمام.. إلخ.
هل نقدر ألا نجعل النهب ــ الفساد ــ الخراب قدرا، ونتحرر… أظن أننا نستطيع.. وبقوة الدم الذى أريق فى الميادين