تشير أحداث النزاع الدينى، التى زادت وتيرتها فى السنوات الأخيرة، إلى أن هناك خللا قد طال العلاقة بين المواطنين المصريين من المسلمين والمسيحيين. خلل لم يعد من المفيد معه التستر والتغطية عليه أو إغفاله والتعامى عنه.كما لا يمكن التعاطى معه عن طريق المسكنات أو التهدئة المصطنعة، أو اللقاءات الاحتفالية التى تلعب دورا امتصاصيا لتداعيات الأحداث.. ذلك لأن الخلل لم يعد طارئا أو عارضا وإنما بات مزمنا منذ أربعة عقود، ما يعنى تهديدا لوحدة الوطن وتماسكه، وهو أمر كفيل بأن يضعف مناعته ويسهل تعرضه لما أطلقنا عليه مبكرا، مرة، «فيروس التفكيك» (راجع دراستنا المعنونة «المواطنة الثقافية أو فيروس التفكيك»، التى قدمت إلى ندوة الحوار القومى/ الدينى التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية فى ديسمبر2007، ونشرت أعمالها 2008).. ما خطورة ذلك ودلالته؟
فيروس التفكيك يطلق شرارة النزاع الصلب والناعم
إن خطورة فيروس التفكيك أنه متى أصاب الأوطان فإنه لا يفرق بين أحد وآخر، وكما يصيب التنوع العام: التيارات الفكرية والأديان، فإنه يمتد إلى التنوع الداخلى: الفصائل الفكرية المتعددة والمذاهب فى داخل الدين الواحد. ولعل من أهم أعراض هذا الفيروس هو تراجع الجهد المشترك بين المواطنين لبناء الدولة ــ الأمة، حيث تنحو كل فئة إلى السلوك كطائفة ومن ثم تكون النتيجة تبلور مجتمع طوائفى بامتياز ما يعنى انطلاق شرارة النزاع بأشكاله ودرجاته: الصلبة والناعمة.
والإصابة بهذا الفيروس لا تعنى إلا فشلا فى إدارة التنوع وغياب القدرة على ابتكار السياسات والآليات القادرة على إتمام عملية الاندماج الوطنى بين مكونات الجماعة الوطنية على اختلافها، كذلك خلق المساحات التى من شأنها جذب المختلفين للعمل المشترك. وعليه فإن الارتداد إلى الأشكال الأولية للتنظيم من جهة، والتوحد بدوائر الانتماء الفرعية من جهة أخرى ــ وبحسب كثير من الأدبيات المعتبرة ــ إنما يمثل «ترنحا للأسس القومية للدولة».. ولتأكيد هذا المعنى يمكن أن نقارن بين طبيعة الاختلاف الذى جرى بين المواطنين المصريين من المسلمين والمسيحيين فى مطلع القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين.
العلاقات الإسلامية المسيحية قبل وبعد الدولة الحديثة
تعكس القراءة التاريخية للعلاقة بين المصريين من المسلمين والمسيحيين أن هناك قاعدة تحكم هذه العلاقة يمكن تسميتها «بالجدلية المجتمعية»، وأقصد بها أنه بمقدار ما يكون المجتمع ناهضا بمقدار ما ينعكس ذلك إيجابا على العلاقة والعكس صحيح.. (لم تكن وردية بالمطلق بحسب طرف ولم تكن دموية بالمطلق بحسب الطرف الآخر، وفى الحالتين كانت تتوقف على السياق المجتمعى، وقد درسنا هذا تفصيلا فى أكثر من كتاب، يمكن مراجعة الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط).. كان هذا هو الحال بداية من عصر الولاة مرورا بالدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية الأولى والثانية والأيوبية وحتى المماليك والعثمانيين.. ومع مشروع محمد على لإقامة دولة حديثة وتمصيره لمؤسساتها ــ منذ 1805 ــ فإننا نجد العلاقات قد نحت نحو مسار آخر مر فى أربع مراحل وذلك كما يلى:
(أ) التأسيس المشترك.. القرن 19.
(ب) السجال المدنى.. أزمة1911.
(ت) الشراكة الوطنية: مدنية/ سياسية اقتصادية/ اجتماعية.. (1919 ــ 1969).
(ث) النزاع الدينى: أربعة عقود/ مراحل أربع (منذ مطلع السبعينيات: العنف المسلح، والاحتقان المجتمعى، والسجال الدينى، والتناحر القاعدى بين المواطنين العاديين).
لن يتسع المقام أن نشرح كل مرحلة على حدة إلا أن ما يهمنى إلقاء الضوء عليه هو أن نقارن كيف أن سجال مطلع القرن العشرين اتخذ طابعا مدنيا بينما سجال مطلع القرن الواحد والعشرين اتخذ طابعا دينيا.. وهو ما لم ننتبه إليه، وإلى خطورته.
1910.. مدنية السجال
لم يشأ العقد الأول من القرن العشرين أن ينتهى إلا والعلاقات بين المصريين من المسلمين والمسيحيين نجدها وقد تعرضت لأزمة المؤتمرين القبطى والمصرى. فلقد كان من المفترض أن ما تم إنجازه فى القرن التاسع عشر يتواصل. بيد أنه ربما وبسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التى أطلت فى 1906، وربما بسبب تصاعد الحديث عن الجامعة الإسلامية فى سنة 1908، وربما بفعل عوامل خارجية، أو لكل ذلك معا، حدث الخلاف الأبرز بين المسلمين والمسيحيين عقب اغتيال بطرس غالى فى 1910.
وعلى الرغم من الطابع الذى يبدو طائفيا للمؤتمر إلا أن الصفة المدنية للمؤتمرين ووعيهم الاجتماعى وانخراطهم فى الحركة السياسية والمدنية المصرية بدرجة أو أخرى جعلت هذه المطالب توضع فى سياق وطنى، وهو ما وضح من كلمات المشاركين والتى عكست، بدرجة أو أخرى، إدراك النخبة المدنية، آنذاك، الحدود بين ما هو دينى وبين ما هو مدنى من جهة، وأن الصفة الدينية للأقباط لا تتناقض مع الصفة المدنية والوطنية من جهة أخرى.كما وضعت من جهة ثالثة المسافات بين الشأن الدينى الداخلى للمؤسسة الدينية وبين الشأن العام للأقباط. لذا تميز المؤتمر أنه استطاع أن ينتهى إلى تقليد جديد حول دور النخبة المدنية، وكيف يمكن التمييز بين دورها الدينى داخل الجماعة الدينية ودورها المدنى فى المجال العام والسياسى.
ويعلق طارق البشرى على المؤتمر بأنه «رغم ما يوحى به عقد مؤتمر قبطى من محاولة لصدع الجامعة الوطنية، فقد شمل الجميع أو الغالبية حرص على توثيق الرباط الوطنى. وجاء التزام الجميع بقصر الحديث على تلك المطالب النقابية أو الفئوية مؤيدا ذلك.. وجاء مؤيدا له أيضا الالتزام بقاعدة المواطنية المبنية على أساس من المساواة العامة. وهذا المنطق الوطنى لم يكن أساسه فقط الإيمان المجرد بقيم مثالية. ولكنه وجد أساسه أيضا فى الاقتناع بالمصلحة المشتركة. وقد أدت المناقشة الجادة لكل المسائل التى عرضت، إلى الوصول إلى أن حل المشكلة لا يكون فى التمييز، وإنما يكون فى المزيد من الاندماج.. كما أفضى التراث المشترك والتكوين الوطنى الواحد إلى اقتصار المسائل المطروحة على الجانب الاقتصادى».
وجاء المؤتمر المصرى «الإسلامى» لينحاز إلى مناقشة قضايا مصر العامة ويتناول الإشكاليات القبطية فى هذا السياق.. انطلاقا من توثيق الروابط الوطنية والتوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية.. وكان المؤتمر فرصة للتأكيد على قضايا «مصر للمصريين» وتكلم عن الأحوال الاجتماعية والواجبات القومية المطروحة للتطور الاجتماعى وخاصة تطوير التعليم، وناقش الأحوال الاقتصادية والتجارة والحركة المالية والمصرفية وسيطرة البنوك القائمة، الأجنبية بالأساس، وتبعية الاقتصاد.. وفى مبادرة مهمة تحدث المؤتمر عن وجوب مراعاة أحوال الزمان والمكان فى تطبيق أحكام الشريعة الغراء.
خلاصة القول كان السجال مدنيا، دار فى إطار المجال العام وما إن توافرت الظروف الملائمة حدثت ثورة 1919 لتبدأ مرحلة من الشراكة الوطنية بين المصريين ظلت على مدى نصف قرن وحتى 1969.. حيث بدأت مجموعة من أحداث الإثارة الدينية بدأت فى 1970، بحسب تقرير العطيفى الذى رصد 11واقعة جرت قبل الخانكة 1972.. ودخلنا فى مرحلة النزاع الدينى والتى جرى فيها نوع آخر من السجال دينى السمات.
2010.. السجال الدينى
مع انطلاق النزاع الدينى منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضى، بدأ السجال الدينى يأخذ طريقه إلى المجال العام بين المسلمين والمسيحيين، إنه سجال يقوم على التجاذب العقدى: الفقهى واللاهوتى، حول أفضلية كل دين، وقد ساهمت الفضائيات والإعلام الالكترونى من غرف دردشة، ويوتيوب، ومواقع على تكوين عالم سجالى شبكى واسع، على تأجيجه.. ومطالعة سريعة لما يتضمنه تؤكد ما أقول كما تشير إلى أن هناك عالما آخر غير الذى نعرفه هو الذى يشكل الوجدان والذاكرة لعموم المواطنين.. حيث تم توظيف الاختلاف الدينى باعتباره خلافا يستدعى القتال والسجال والنزاع.. وعليه بات كل طرف يستدعى ما يبرر له الانقضاض على الطرف الآخر أو ما أطلقنا عليه، مرة، «نفى الآخر».. ويتدرج النفى من: الإهمال إلى إنكار الوجود إلى إهدار الدم.
وهكذا بدلا من أن ننحاز للنقاش الوطنى المشترك ولقضايا الوطن كما حدث فى 1911، خرجنا بعيدا عن المجال العام الجامع إلى خنادق تمترسنا فيها.. خندق يعلن مطالبه الدينية بالأساس.. وخندق مضاد ينشر مقاطعة اقتصادية للشركات المملوكة لأقباط.. كل ذلك تحت مظلة فقهية ولاهوتية تدعم الفرقة وتباعد بين المصريين.. ومقولات تجرح فى عقيدة كل طرف.. ولعل الحوارات السياسية التى دارت عقب جريمة نجع حمادى تشير إلى التراجع الشديد الذى أصاب حواراتنا حيث مالت إلى أن تكون دينية.
إنه وضع خطير.. وهنا أستطيع أن أتفهم أن هناك من يطالب بالتهدئة، وأنا لست ضد ذلك، شريطة أن تكون هناك حلول حاسمة نتشارك فيها.. وأن نعطى بعض الاهتمام لفهم التحولات النوعية التى جرت ودلالتها الرمزية وهو ما يحتاج لبعض التحليل ولبعض التنظير.. فالواقع لم يعد هو الواقع كما أن المعالجات التى كانت تنفع فى الماضى لم تعد نافعة الآن وهنا أهمية التحليل لأنها ترد على السؤال الأهم «لماذا؟».. أقول هذا لإحساسى أن هناك رؤية تميل إلى الحلول العملية دون تحليل.. وهو ما لفت النظر إليه الأستاذ سمير كرم فى مقاله منذ أسبوعين «كلام نظرى»، عن ميلنا ألا نعطى أهمية للكلام النظرى أو التنظير أو التحليل، بحجة أولوية الحلول العملية، وأنه لا ضرورة للتفلسف.
الخلاصة: إن السجال الدينى الدائر حاليا والذى يقوم على تقسيم المجتمع على أساس دينى، يختلف جذريا عن السجال المدنى الذى دار فى الماضى والذى كان يصب، فى النهاية، مهما رفع من مطالب، فى السياق الوطنى العام.. وأن ما طرأ إنما يعكس فداحة ما وصلنا إليه من ترنح كما قلت فى البداية.. وهو ما يحتاج إلى مواجهة شاملة.