عن المواطنة والمستقبل

مع نهاية العام أجدنى منشغلا بوضعية «المواطن المصرى»، وإلى أى حد يمكن أن تكون المواطنة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية قد توافرت لهذا المواطن. لقد كانت 2010 سنة صعبة ولاشك على صُعدٍ كثيرة. فلقد بدأت السنة بجريمة نجع حمادى، كما فُتح الملف الاقتصادى واتفق الاقتصاديون باختلاف توجهاتهم على أن معدلات النمو التى تبدو مُرضية لدى البعض قد خاصمت شرائح كبيرة من المواطنين. أيضا فى هذه السنة واجهنا سؤال الهوية والحرية الدينية على خلفية التوترات الدينية.

وأخيرا إنها السنة التى شهدت انتخابات برلمانية مهمة وحساسة. الأمر الذى يحتم علينا أن نطرح على أنفسنا سؤالا: هل ما واجهه المواطن المصرى خلال هذه السنة كان إضافة للمواطنة بأبعادها أم كان خصما منها؟

فى معنى المواطنة
قبل الإجابة، من الأهمية أن نحدد فهمنا للمواطنة. فنحن ننطلق من تعريف للمواطنة استخلصناه من خلال اطلاعنا على كثير من الأدبيات المعتبرة، والخبرات العملية سواء لمجتمعات قطعت شوطا فى مسيرة المواطنة أو لخبرتنا المصرية التى شهدت إرهاصات الاقتراب من المواطنة فى مراحل تاريخية مختلفة منذ تأسيس الدولة الحديثة مع محمد على فى عام 1805 وإلى الآن (حددنا مسيرة المواطنة بخمس مراحل ويمكن مراجعة كتابنا المواطنة والتغيير فى هذا المقام).

ينطلق تعريفنا من أن المواطنة هى تعبير عن «حركة الإنسان اليومية، مشاركا ومناضلا من أجل حقوقه بأبعادها: المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأى سبب (اللون/ الجيل/ الجنس/ العرق/الدين/ المذهب/ المكانة/ الثروة)، واندماج هذا المواطن فى العملية الإنتاجية، ومن ثم «المجتمعية»، بما يتيح له تقاسم الموارد فى إطار الوطن الواحد الذى يعيش فيه مع الآخرين».

وأهمية هذا التعريف أنه يحرر المواطنة بعض الشىء من القراءة «الحصرية» الدستورية القانونية التى تحصرها فى كلمتى الحقوق والواجبات، كذلك الدلالة المعنوية التى توحدها بمفهومى الولاء والانتماء أو ما يعرف بالبعد الشعورى للمواطنة. فالمواطنة بحسب ما رأينا ــ فى الخبرات والأدبيات المعتبرة ــ لا يمكن فهمها باعتبارها مفهوما سكونيا، وإنما من خلال الممارسة، لأنها لا تتبلور إلا من خلال حركة الناس على أرض الواقع فى نضالهم من أجل جعل عناصر التعريف السابق متحققة من: مشاركة، وتوافر الحقوق بأبعادها، والدفع بالمساواة كى تكون حقيقة، وأخيرا التمتع بالثروة العامة للبلاد. أى أن المواطنة لا تتكون بقرار فوقى، وإنما بالجهد المبذول من قبل الناس على أرض الواقع.

وعليه لا يمكن فهم المواطنة بمعزل عن السياق الاجتماعى الذى يتحرك فيه الناس بحثا عن المواطنة، كذلك بعيدا عن فهم موازين القوى الاجتماعية السائدة والتحيزات الثقافية الناتجة، وهيكل الدولة، والأيديولوجية المهيمنة، ونمط الإنتاج القائم، وبالبناء الطبقى الذى يميز مجتمعا من المجتمعات فى لحظة تاريخية معينة… إلخ.

ويعنى ما سبق أننا نتجاوز الرؤية السكونية للمواطنة، إلى رؤية ترى المواطنة فى سياق ديناميكى بفعل الاقتصادى والاجتماعى والسياسى والثقافى ــ الدينى.

وعليه فبمقدار ما يتحرك المواطن واعيا بالسياق الذى يتحرك فيه تتحقق المواطنة. والمواطنة التى نقصدها ذات أبعاد متعددة وتقاطعات مركبة: مدنية/ سياسية، واجتماعية/ اقتصادية، وثقافية/ دينية.
فى ضوء ما سبق نحاول الإجابة عن سؤالنا الذى طرحناه حول المدى الذى بلغته المواطنة هذه السنة فى ظل التحديات المتعددة؟

فى مدى تحقق المواطنة
بداية لابد أن نقول إن البيئة الدستورية المصرية قد وفرت من خلال نص دستورى صريح شرعية للمواطنة فى مفتتح الدستور؛ ففى المادة الأولى من الباب الأول من الدستور المصرى الحالى نص المشرع على أن «جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة». وبالرغم من الضمانة التشريعية إلا أنه لم تزل هناك فجوة بين النص والواقع. فالقراءة الدقيقة «للحالة المواطنية» بصورتها المركبة متعددة الأبعاد سوف يلاحظ التعثر الواضح.

فالمواطنة كقيمة عليا للحياة الديمقراطية فى أى مجتمع تتوقف إلى حد كبير على ظروف الواقع المجتمعى وعلى مدى قدرة البناء السياسى (الدولة ــ المجتمع المدنى) على الاستجابة للبناء الاقتصادى ــ الاجتماعى السائد. فكلما كان البناء السياسى متسقا مع البناء الاقتصادى ــ الاجتماعى، كلما ارتبط ذلك بقدرة المواطن على ممارسة المواطنة. وفى المقابل إذا شهد التطور التاريخى عدم توافق بين البناءين فإن ذلك يعنى أن هناك أزمة تعترض العملية الديمقراطية مما يعنى إعاقة المواطن عن ممارسة المواطنة.

وعليه ليس صدفة أن نجد انفراجة مقبولة من حيث حرية التعبير والإبداع الثقافي. بيد أن المشكلة تبدأ فى المجالات السياسية والاجتماعية بأشكالها الحزبية والنقابية والمؤسسية المدنية حيث لا يواكبها نفس «البراح» من حيث التحرك النقابى والسياسى والمجتمعى وما يتطلبه هذا الأمر من حرية تنظيم وتكوين روابط متنوعة. وعليه نجد المشاركة كأحد أهم عناصر المواطنة تدور حول 15 % من إجمالى من له حق المشاركة. ومن ثم تصبح المشاركة عمليا هى «المشاركة للقلة» فى واقع الأمر.

كما أن التفاوت الاجتماعى بات واضحا من خلال أقلية ثروية وأغلبية تعانى من أجل توفير احتياجاتها.

وهنا يطول الحديث فيما يتعلق بالمساواة كأحد عناصر المواطنة فنجد الإخلال بمبدأ «تكافؤ الفرص» بالرغم من أن النص الدستورى يلزم بتوفيرها للجميع دون تمييز. فالحديث الدائم من قبل الرسميين على أهمية مراعاة البعد الاجتماعى لابد أن يتحول من مجرد مسألة يتم مراعاتها إلى حق يجب أن تتضمنه كل سياساتنا الاجتماعية من خلال توفير شبكة أمان اجتماعى شاملة لمن يملك ولمن لا يملك. وبهذا تتحقق المساواة التامة نسبيا ـ وأذكر هنا تعبيرا لطه حسين مفاده أن المساواة «لا تأتى إلا بتحقق العدل الاجتماعى بأدق ما يمكن أن يتحقق به العدل الاجتماعى، فلا يجوع إنسان ليشبع إنسان آخر «…» مساواة تجعل الناس سواء أمام الثمرات التى قُدر للناس أن يعيشوا عليها «…» المساواة فى: القدرة على الاستمتاع بالحياة، والقدرة على تجنب الشقاء، وفى أن نشقى جميعا إذا لم يكن ُبدٌ من أن نشقى، وأن ننعم جميعا، إذ من حق الناس أن ينعموا»…

كذلك اختلال ما يعرف بالعدالة التوزيعية. وعنها يركز أرسطو على ضرورة توزيع الطيبات من الثروة والأوضاع الأدبية وسائر المزايا التى تقبل التقسيم بين أفراد المجتمع.

وأخيرا وجود لا مساواة ثقافية تتجلى فى التقييد أو المبالغة على السواء فى إمكانية التعبير عن الرموز والطقوس الثقافية والعقدية.

ويلاحظ مما سبق هو التقاطع فيما بين أبعاد المواطنة وبعضها. فالمواطنة فى بعدها الاجتماعى ترتبط بالاقتصادى بالسياسى بالثقافى وهكذا…

فى تفعيل المواطنة
الخلاصة، إن الحصاد النهائى لسنة صعبة فى تقديرى، لم تزل فيه الكثير من الإشكاليات قائمة دون حل، إنما تعكس أن المواطنة بحسب ما عرفناها تحتاج إلى المزيد من التفعيل من خلال المزيد من حركة المواطنين لتجاوز الإشكاليات التى تم رصدها وتمثل إعاقة فى تحقيق التغيير المطلوب نحو التقدم المأمول. فالمواطنة تعد بحسب أحد الباحثين، شرطا أساسيا لتحقيق التقدم، فالتقدم الذى يضمن مشاركة معبرة عن التنوع ومساواة تامة ومنظومة حقوق متكاملة وشراكة حقيقية فى الثروة العامة للبلاد على قاعدة اقتصاد إنتاجى.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern