فك الارتباط بالسياسات الليبرالية الجديدة.. المدخل للتغيير

يمكن القول إن عام 2009 هو عام : نهاية النيو ليبرالية»…فعلى المستوى الفكرى كتب فوكوياما (صاحب الكتاب الأشهر نهاية التاريخ) فى يناير من العام المنصرم دراسة فى مجلة أمريكان إنترست عنوانها «نهاية الريجانية»، يعلن فيها فشل السياسات النيو ليبرالية وضرورة تجاوزها وعلاج سلبياتها.. وتوالت الدراسات والمؤتمرات التى تعيد النظر فى السياسات النيو ليبرالية…وعلى المستوى السياسى العملى نجد جوردن براون رئيس وزراء بريطانيا يقول فى 17 مارس الماضى ما نصه إن «إجماع واشنطن الذى ظل مسيطرا لمدة 40 سنة مؤيدا سياسة الأسواق الحرة فى كل مكان، قد وصل إلى نهايته» Free markets has come to an end وهو كلام أقل ما يوصف به أنه يعد انقلابا جذريا على سياسات السوق، كما أن مقولة «دعه يعمل، دعه يمر قد انقضى يومها» وانتهى زمانها Laissez –faire has had its day، إنه الكلام الذى وصفناه وقتها بأنه «بروسترويكا رأسمالية» بدرجة أو أخرى…

وفى نفس الوقت هاهو أوباما ومعه الشرائح الوسطى والدنيا، يكافح فى الداخل الأمريكى وعلى مدى أكثر من عام، من أجل قانون الرعاية الصحية، الذى يعكس فى الواقع محاولة عملية للتخلص من السياسات النيو ليبرالية…

فى هذا السياق، لم نزل فى بلدنا نتمسك بهذه السياسات.. وفى نفس الوقت يتحدث البعض عن التغيير دون أن يتطرق إلى هذه السياسات.. وظنى أنه لن يتأتى التغيير إلا بفك الارتباط بهذه السياسات، وينبغى أن يكون هذا هو هدف أى تغيير… ذلك لما اقترفته هذه السياسات من أضرار على المستويين الاقتصادى والسياسى.. كيف؟

الليبرالية الجديدة والتفاوت الصارخ بين البشر

على المستوى الاقتصادى انطلقت الليبرالية الجديدة من فكرة عرفت باسم «تأثير التساقط» trickling down effect، والتى قُصد بها:

«أن غنى الأغنياء سيصفى تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر، لأن الغنى المتزايد يعنى تزايد الاستثمار وخلق فرص عمل باستمرار.. وعليه تنحصر البطالة من جهة، أما غير القادرين على العمل من المرضى والكسالى والمعاقين فيمكن أن يواجه بالأنشطة الخيرية Charity، أى ما يتبرع به الأغنياء…

بيد أن هذه السياسات لم تغدق إلا «الإفقار» للغالبية، ولم تحقق المغانم إلا لفئة قليلة… وتبين أنها سياسات تأتى فى المقام الأول لصالح الأغنياء من خلال إعفاءات ضريبية ومزايا اقتصادية مطلقة، وعدم توفر قيود تشريعية وقانونية حمائية ضد مغامرات هذه الرأسمالية من مضاربات ورهونات وقروض، وترك الناس تحت رحمة السوق بآلياتها التى لا ترحم، وبالأخير الوصول إلى حالة اقتصادية ذات طبيعة احتكارية مالية أوليجاركية أى فى أيدى قلة وفى اللحظة التى يراكم فيها هؤلاء القلة الثروة تظل دخول الأغلبية كما هى دون تحسن.. ومن ثم تزداد الفجوة بين القلة «الثروية» والأغلبية.. وينتج عن ذلك اللا مساواة الاجتماعية بامتياز، حيث إن عائد النمو الاقتصادى يذهب لمن هم فى أقصى القمة go to the very top، وبات يعرف المجتمع بأنه مجتمع «الخمس»، أى أن 20 % من سكانه يستأثرون بالثروة على حساب 80 % من إجمالى السكان أو أربعة أخماس المجتمع.. وهو ما يعنى أن هناك لا مساواة صارخة وتفاوتا حادا بين البشر.

ولم تفلح محاولات المؤسسات الدولية فى أن تسد الفجوة التى أخذت فى الاتساع بين دول الشمال والجنوب، بل امتدت إلى دول الشمال نفسها.. والمفارقة أن بلدان المنشأ أو البلدان صاحبة الاختراع أخذت فى مراجعة نفسها كما قلنا فى المقدمة، بينما لم تزل بلداننا متمسكة بالسياسات النيو ليبرالية… كما بدأت المؤسسات الدولية فى التراجع بعض الشىء عن الكثير مما كانت تروج له.. ولم يبق لنا لتعويض الآثار السلبية لليبرالية الجديدة إلا تشجيع النشاطات الخيرية لتلبية احتياجات المهمشين وليس بدعم الاقتصاد الإنتاجى.

الليبرالية الجديدة وأولوية السوق على المجال العام

أما على المستوى السياسى، فلقد كان من المفترض أنه مع زيادة حجم الكعكة الاقتصادية أن تزداد مساحة الديمقراطية وأن يشعر الفرد بمواطنته من خلال حركة فاعلة ونشطة فى المجال العام.. بيد أن الليبراليين الجدد قد طرحوا قيما من ضمنها أن معنى الحياة يوجد فى الأشياء التى يستهلكها ويمتلكها»المرء.. فإن يستهلك المرء يعنى أنه حى تماما، ولكى يبقى حيا تماما لابد أن يستهلك باستمرار»، وليس فى أن يكون الفرد مواطنا فاعلا ومشاركا ومدافعا عن المساواة ومناضلا من أجل إقامة العدل.

وباتت الديمقراطية التمثيلية بما تضم من نواب عن الشعب لا تهتم بمصالح الأغلبية من المواطنين بنفس القدر الذى تدافع فيه عن مصالح الأقلية الثروية من جهة، ولأن المنتجين باتوا معنيين برغبات المستهلكين (المواطنون سابقا)، أكثر من نواب الشعب، من جهة أخرى،انطلاقا من قاعدة مفادها:

«دفع الناس بأن يستهلكوا أكثر من حاجاتهم البيولوجية الطبيعية ليساهموا فى استمرار رأس المال بهدف تعظيم الربح»… لم يعد أمام المرء سوى أن «يعيش ليستهلك»…

لقد بات الاستهلاك الطريق للحصول على المكانة وفى غياب البدائل الاجتماعية والسياسية الممكنة تكون هناك حاجة إلى العثور على كل متعة تقريبا من السلعة… وهكذا يتحول الناس من مواطنين إلى مستهلكين.. ويصبح هدف العملية السياسية هو التأكد على أن العملية الاستهلاكية تسير بانتظام تام، ليس إلا.

لا لليبرالية الجديدة

الخلاصة أن السياسات النيو ليبرالية قد أدت إلى إعادة توزيع الثروة والدخل لصالح قلة أى أدت إلى اللا مساواة من جهة. كما أدت من جهة أخرى إلى أن يعطى الفرد الأولوية للتحرك فى السوق مستهلكا كان أو مستثمرا أو للبورصة مضاربا… ولا يمنع فى ظل منطق السوق أن يحدث بعض الحراك السياسى الفئوى الضيق المطالب، على ألا تتجاوز حركة الناس حدود تخوم المجال العام إلى القلب من هذا المجال.. فمن غير المسموح أن تتلاقى مطالب هذه الفئات مع بعضها البعض لتكون مطالب جماهيرية شاملة… ولكن المسموح أن تظل تتحرك كل مجموعة بمعزل عن المجموعات الأخرى لتظل المطالب فئوية..

وعليه، وفى ضوء خبرة المجتمعات الأخرى، لا يمكن فى ظننا أن يحدث أى تغيير ما لم يكن الهدف الأساسى للتغيير هو فك الارتباط بالسياسات النيو ليبرالية… مما يعنى إعادة النظر فى النهج الاقتصادى ومراجعة كل ملفاته من جهة، واستعادة المواطن للمجال العام لإعادة الحيوية له.

لقد كانت تكلفة الخيار النيو ليبرالى باهظة، بسبب الضرر الاجتماعى الذى لحق ببنية المجتمع؛ من عودة إلى الانتماءات الأولية وتلمس السلوان فى البدائل التقليدية من قارئى الحظ والطالع والمبالغة فى التدين والانحياز إلى الثقافة المحافظة المعيقة لأى تقدم… وغياب أى أرضية لتنمية إنسانية عادلة… كما امتدت الأزمة لتشهد تراجعا أكيدا فى مستويات الأمان الاجتماعى والعدالة والمساواة، كذلك تعرض فئات وشرائح نوعية فى المجتمع للتمييز مثل: الأطفال، وكبار السن، وذوى الاحتياجات الخاصة..الخ، وحاجتهم لدخول معقولة، وبرامج صحية متاحة، واندماج فى المجتمع.

إن عملية التغيير أعقد من الاكتفاء فقط بمطالب ذات طابع قانونى إجرائى، على أهميتها.. فالوعى بما نتج عن السياسات النيو ليبرالية من تحالفات ذات طبيعة مركبة وشبكة مصالح معقدة وتحولات جوهرية لحقت بالبنى والهياكل المختلفة هو المدخل لأى تغيير.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern