لا فرحنا بالجديـد.. ولا خجلـوا مـن القديـم

عنوان هذا المقال مستوحى من قصيدة للشاعر برتولد بريخت عنوانها: «البحث عن الجديد والقديم».. أجدها تعبر كثيرا عن الوضع الراهن الذى يعكس لحظة فارقة تمر بها مصر.

ويبدو لى أنه فى اللحظات الفارقة وبعد أن نكون قد استنفدنا التحليلات السياسية واتخاذ المواقف اللازمة المطلوب اتخاذها لا نجد أمامنا إلا إبداعات المبدعين نستعيدها ونعرض لها علها تفلح فيما أخفقت فيه التحليلات المنهجية والمواقف العملية. وأتذكر هنا أنه مع الانسداد السياسى الذى شهدته البلاد بسبب انتخابات 2010،  كيف استعدنا حارة نجيب محفوظ أو الأدب للتعبير عن أحوال العباد والبلاد، بعد استنفاد التحليلات السياسية أغراضها. ونشرنا آنذاك مقالنا المعنون «عن أحوالنا التى رفضتها مصر الشابة» فى 31 يناير 2011. وفى اللحظة الراهنة يبدو لى أننا نحتاج إلى استعادة الإبداع الأدبى.. لماذا وكيف؟

المعادلة التى اختلفت

لقد مارس أهل الحكم قبل يناير 2011 الهندسة السياسية وتحكموا فى عضوية البرلمان. وهو ما عجل باستنفار الجميع على اختلافهم فى مواجهة الحكم، أو ما أطلقنا عليه الموجة الأولى من الحراك الشبابى الشعبى الثورى الذى انطلق فى 25 يناير. وبعد ما يقرب من عامين تمارس السلطة سلوكا قسريا يؤدى إلى قسمة مصر إلى فريقين.. وهو ما ينبئ بتداعيات كارثية. وكأن القديم الذى طال عمره وترهل وجرف معه كل شىء ما استوجب انطلاق المصريين عاد يطل مرة أخرى بنفس المفردات: من ذهنية وممارسات، ولكنها أدت إلى انقسام المصريين الذين توحدوا من قبل فى مواجهة بعضهم البعض. من خلال إعلانات دستورية وقوانين استثنائية لمواجهة المؤامرة مثلما كان قانون الطوارئ معلنا لمواجهة أعداء الاستقرار والتنمية والتضييق على الحريات والعمل الحزبى والنقابى. ويضاف إلى ذلك وحتى يكون المشهد مكتملا هو الظهور اللافت لعناصر كانت محسوبة على التغيير وجدناها تدافع عن نصوص استثنائية وتناضل من أجل تبرير وتمرير الطارئ والاستثنائى.. ولم يلتفتوا إن أهم عنصر فى المعادلة قد تغير ألا وهو الناس / المواطنون، كذلك المجتمع الذى بات سابقا للسلطة.

• المواطنون الذين ناضلوا عبر العصور فى مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية والحديثة من أجل «اختراق حاجز السلطة» بحسب تعبير وليم سليمان قلادة سلطة الحاكم الوافد والمستعمر بالرغم من التماثل الدينى المسيحى الرومانى والبيزنطى،  والدينى الإسلامى الطولونى والإخشيدى والمملوكى والعثمانى.. واستكملوا النضال فى الدولة الحديثة ليس من أجل اختراق حاجز السلطة فقط وإنما ليكون لهم شراكة حكم مصر.

والمجتمع الذى عوض تخاذل وانسحاب الدولة من كل شيء فى العقود الاربعة الماضية منذ تأسيس دولة يوليو المضادة لكل المكتسبات الوطنية. وذلك بابتكارات وابداعات فى المجالات المعيشية أو بمبادرات فى المجالات السياسية والمدنية.. فلم تعد المواطنة مجرد فكرة نتحادثها، وإنما فعلا نمارسه، أقول لم يُلتفت لجديد المعادلة فما كان من سلطة ما بعد 25 يناير إلا ان أعادت إنتاج القديم. وهنا نستدعى شاعرنا:

عندما تقرأون أدواركم، فاحصين لها، مستعدين لإبداء دهشتكم، فابحثوا عن الجديد والقديم، لأن زمننا وزمن أولادنا، هو زمن صراع الجديد مع القديم.هو شىء جديد وينبغى أن يعرض كشىء جديد.

كما يقول المثل الشعبى: أثناء تحول القمر يحمل القمر الجديد القمر القديم ضعوا «الآتى» و«الذاهب» دائما فى اعتباركم! إن الصراع بين الطبقات والصراع بين القديم والجديد يجيش كذلك فى داخل الفرد. كل مشاعر شخصياتكم وتصرفاتهم افحصوها بحثا عن الجديد والقديم! آمال الأم شجاعة التاجرة تفضى بأولادها إلى الموت.

لكن يأس الخرساء من الحرب ينتمى للجديد. وحركاتها العاجزة وهى تجر الطبلة المنقذة إلى السطح ينبغى أن تملأ نفوسكم بالفخر، وشطارة التاجرة التى لا تتعلم شيئا، ينبغى أن تملأ قلوبكم بالشفقة والرثاء، وعند قراءتكم لأدواركم وفحصكم لها، مع استعدادكم للاندهاش، افرحوا بالجديد واخجلوا من القديم.

هل نحن لا نتعلم شيئا؟

إذن دلالة حدوث تغيير هو أن نفرح جميعا بالجديد وأن نطوى كل ما يتعلق بالقديم. الجديد بكل تفاصيله من تحديث مؤسسى وضخ دماء جديدة وعقول متفتحة من كل التيارات من أجل بناء مصر الجديدة التى تقوم على ثلاثة أسس: الجمهورية العادلة/ المعتدلة، وتجديد مؤسسات الدولة، والمصالحات التاريخية فى مواجهة الخصومات والحوارات الحدية. وعليه لابد أن يتوافق المصريون على المواطنة، والكرامة الانسانية بجناحيها الحرية والعدالة، والتمكين، ومصر المركب الحضارى.

بيد أن اللجوء إلى القديم هو ما ساد. وأظن أن بحثا علميا سوف يكون مثيرا حول اتباع السلطة لنفس الأساليب والإجراءات فى التعاطى مع مواطنيها. كذلك ظهور شخصيات تدافع باستماتة عن ما يدور وتستعير نفس المفردات القديمة. ودون أن تدرى نجد هذه الشخصيات وقد تقمصها أرواح علوية لشخصيات ممجوجة من الماضى كانت تتشدق بنفس المفردات وكانت كل مهمتها التبرير والتمرير. أستاذ قانون دستورى يؤكد عندما ووجه بقضية أن المسودة الدستورية تبيح عمالة الأطفال وخاصة أنها لم تحدد سن الطفولة. قال بحسم محتميا بالعصمة العلمية أنه راجع ذكر عدد كبير العديد من الدساتير ولم يجد أمرا مثل ذلك. فقط نشير أن الدستور الهندى حدد سن الطفولة وتعريفها. ومن القديم أيضا توظيف الدين للدفاع عن المنتج الخاص بفئة متغلبة، والظهور المتجدد لترزية القوانين بمعاونة التكنوقراط القدامى.

النتيجة أننا أصبحنا مثل التاجرة التى لم تتعلم شيئا. أعلم أن القراءة التاريخية والدراسة التحليلية للمجتمع وما طاله من تغييرات تعدان من المحرمات التى حرمتهما السياسات النيوليبرالية التى تريد مجتمعا ساكنا يقبل بالفتات الذى تسقطه اقتصاديات السوق. ويا حبذا لو تحالفت هذه السياسات مع قدر من الدروشة الدينية البعيدة عن صحيح الدين والتى تغرق الإنسان فى الغيبيات. إنه تحالف اليمين الثروى والدينى. وهو نموذج درسناه بعناية فى الحالة الأمريكية فى فترتى بوش الابن، وكتبنا عنه مبكرا، ويبدو لى أنه نموذج يتم ترويجه لمنطقتنا. ليس مسموحا بخطاب دينى تقدمى.ولذا وصفنا النص الدستورى المطروح بأنه تعبير عن موازين القوى بأثر رجعى لتحالف اليمين الدينى والثروى.

الدستور الذى ظل بملامح اشتراكية رغم انقلاب السادات على دولة يوليو وتأسيسه لدولة يوليو المضادة وإصداره لقوانين الانفتاح فى 1974(التى تتناقض مع الدستور). وما إن تغير الدستور رويدا رويدا مع مرور الوقت من خلال مجموعة من التعديلات أوصلته إلى شكله الحالى وكأنها باتت تعبر عن موازين القوة التى تحالفت معا تاريخيا منذ مطلع السبعينيات.

وهكذا بدلا من تأسيس جمهورية جديدة ثانية، يبدو لى أن المشهد الحالى هو امتداد للجمهورية الأولى ولكن فى مرحلتها الثانية التى وصفتها بيوليو المضادة (راجع سلسلة مقالاتنا عن ستينية ثورة يوليو فى الشروق خلال شهر يوليو الماضى) ولكن تحت مظلة دينية.

والمحصلة أننا امام عملية «فاسدة» لأنها من زمن فات أى قديمة ولا تعبر عن التغيرات التى طرأت على المجتمع المصرى ولا عن أحلامه. إنها بامتياز تعبر عن رؤية فئة خاصمت الوطن بكل ألوانه تدافع عن مشروع فاسد قديم كان لابد من الخجل منه.

ولم يدرك حكام ولا نخبة ما بعد 25 يناير المدى الذى ذهبت إليه مصر من تغييرات.. وإنه لم يعد مقبولا اتباع سياسات «الرقعة الجديدة» لأن مصر تحتاج إلى ثوب جديد عملى نفرح كلنا بالمشاركة فى صنعه.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern