قصة مدينتين.. عن مصر الحديثة والسلفية

فى عام 2008 كتب بريان تيرنر ـ (أحد أهم علماء الاجتماع المعاصرين الذين اجتهدوا فى مجال أدبيات المواطنة من خلال مؤلفه المبكر» المواطنة والرأسمالية» ورئاسته لدورية معتبرة تحمل اسم «دراسات المواطنة»، وقد كان لنا شرف تعريفه إلى القارئ المصرى من خلال كتابنا المواطنة والتغيير) ــ دراسة مهمة بعنوان «قصة مدينتين» (نشرت فى كتاب Acts Of Citizenship).

وقد كان لنا شرف عرضها فى حينها لما تضمنته من أفكار مهمة حول المدينة المعاصرة عندما تتقاسمها رؤيتان الأولى «حديثة»، والثانية «سلفية متشحة بالدين حصرا»، وما ينتج عن هذا من آثار ليست فى صالح التقدم. ويأتى اختيارنا لعرض هذه الدراسة لأنه يقترب فيها من واقعنا الذى يشهد جدلا لا يخفى على أحد ومظاهر أظن أنها تحتاج إلى قراءة حول تداعياتها. وكنا آنذاك نحذر من احتمالية أن تسير الخبرة المصرية فى هذا الاتجاه. إلا أن الأيام الأخيرة قد جسدت مشهدا ـ أظنه ـ مدمرا للخبرة المصرية التى نجحت تاريخيا فى عمل مصالحة تاريخية بين الدين والحداثة ـ بدرجة أو بأخرى ـ من جهة، وأظنه أيضا ـ يبدد نتائج الفعل الوطنى الذى جرى فى 25 يناير وكان بمثابة تجديد لهذه المصالحة التاريخية من جهة أخرى، فتم تقاسم المدينة (البلاد) بين رؤيتين متخاصمتين، الأمر الذى يهدد أى افق لتقدمنا. لماذا وكيف؟

المدينة (البلاد) بين الرؤى المتعايشة والمتخاصمة

تقول الفكرة الأساسية فى دراسة تيرنر إن الخبرة التاريخية قد شهدت وجود رؤى متعارضة لحركة المواطنين. وهو أمر طبيعى ومفيد عندما يقبل أصحاب هذه الرؤى بالتعايش معا ويوظفون رؤاهم فى نهضة وطنهم. بيد أن الإشكالية تبدأ عندما تنقسم المدينة (الوطن) بين رؤيتين إحداهما مقدسة لا ينبغى لأحد المساس بها، وأخرى زمنية / نسبية، هنا تتعثر حركة المدينة (الوطن)، لأن الخصومة تحل محل التعايش. ويسود قانون خلاصته أنه لابد للرؤية المقدسة أن تسود وإلا سوف يحدث ما لا تحمد عقباه. وينتج عن ذلك وجود مدينتين يتحرك فيها المواطنون بمعزل عن بعضهم البعض كل بحسب المدينة التى ينتمى لها كما يلى:

المدينة الأولى: «المدينة المدنية»، وتقوم على العقد الاجتماعى بين الأفراد حيث يتحركون فى هذه المدينة وفق المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية كى يحققوا الخير العام..وتنطلق حركة المواطنين وفق عناصر ثلاثة: «العمل»، و«الخدمة العامة» و«تقدم الوطن» من خلال علاقات منفتحة حيث تربط بينهم رابطة المواطنة بغض النظر عن أية انتماءات أولية.

أما فى المدينة الثانية: «المدينة المقدسة» فإن كل مجموعة اجتماعية تنتمى لمعتقد أو مذهب ما، سوف تنغلق على نفسها بما تضم من أعضاء ينتمون إلى هذه المجموعات.. بحيث تصبح هذه المجموعة مغلقة على نفسها حيث تتحرك وفق الولاء لمعتقدها الذى يحكم حركتها فى المجال العام أو فى المدينة الواسعة.. وعندئذ تتحول المدينة إلى أن تصبح مساحة تتحرك فيها مجموعات اجتماعية مختلفة يكون ولاء كل مجموعة منها لما تدين به من معتقدات ذات طبيعة مطلقة.. وهنا مكمن الخطر لماذ؟

خطورة الولائية المطلقه لأن الفرق كبير بين حركة المواطنين على اختلافاتهم من أجل صالح المدينة من دون أن يشعر أى منهم أنه «مُلهم»، حيث التعامل مع ما هو نسبى من سياسة واقتصاد يحتمل الصواب والخطأ، وأن هذا التحرك لا يتناقض مع استلهام قيم ما يدين به وبين أن يتحرك المرء باعتباره عضوا فى مجموعة يوحدها المعتقد فى مواجهة مجموعة أخرى تدين بمعتقد آخر. وهو الفرق الذى يحول المدينة الواحدة إلى مدينتين منفصلتين two separate cities بحسب تيرنر كما يلى:

مدينة سياسية Political City، (مدنية)، مدينة ملُهمة Inspirational City (دينية).
وأخطر ما ينتج عما سبق ما سمته الدراسة «بالولائية المطلقة» Pietization، وهو مصطلح جديد، يصف به أفراد مجموعة ما لا يرون إلا ما يدينون به، ما يدفع إلى رفض قبول ووجود مغايرين لهم رؤى أخرى.. مما يفتح الطريق أمام الصدام والسجال.. ويمثل إعاقة حقيقية للمواطنة وللإطار الوطنى الجامع لكل المواطنين.

والنتيجة الحتمية لما سبق، هو أنه بمقدار ما يزداد الولاء للمجموعة الاجتماعية، ومع كثرة هذه المجموعات، بمقدار ما تزداد المسافة الاجتماعية بين كل مجموعة وباقى المجموعات… الأمر الذى يزيد من احتمالات التوتر إلى حد كبير.

وينهى تيرنر دراسته بسؤال حول كيفية تجاوز الخصومة بين المدينتين «المقدسة» و«المدنية».. وكيف يأخذ التفاعل المجتمعى بين المجموعات سبيله للتحقق، بدون صدام من أجل الخير العام.. أو ما نطلق عليه كيف نجدد رابطة المواطنة بين الجميع بغض النظر عن أية اختلافات؟

التراكم على الخبرة المصرية التى تجددت فى التحرير

ننطلق فى إجابتنا من الخبرة المصرية التى بدأنا بها القرن العشرين. خبرة الدولة الحديثة التى لم تكن فى خصومة مع الدين. واستطاعت أن تصالح بين التحديث والحداثة فى آن واحد. التحديث الذى يعنى القدرة على الانفتاح على الجديد فى العالم. والحداثة التى تعنى القدرة على الابتكار الذاتى بالتفاعل مع هذا الجديد. لم تكن لهذه الحداثة أن تتشكل إلا فى سياق تاريخى تكون هى من نتائجه بكل ما يرافق ذلك من روح نقدية تجاه ما هو تقليدى، ومع انقطاع مع الغيبى والخرافى، وفى سياق التطور الاجتماعى والثورة على البنى المتآكلة. فكانت لدينا مدينة واحدة.

فى هذا المقام حسمت كثير من الإشكاليات من ضمنها:

ـ طبيعة السلطة السياسية.

ـ طبيعة المجال العام.

ـ الحريات والحوار المجتمعى.

وعليه قامت الدولة الحديثة فى غير خصومة مع المقدس أو الدين، ووجدنا الخطاب الدينى يتطور ونفتح على العصر ويتفاعل مع جديده وتم تحديث المؤسسات الدينية فى ظل الدولة الحديثة البازغة،وفى علاقة الدين بالحياة..

بالنسبة للسلطة الدينية؛ فلقد كان الإمام محمد عبده رافضا أن يكون نصيرا لقيام سلطة دينية فى المجتمع بأى وجه من الوجوه وفى هذا المقام كان يقول:

«إنه ليس فى الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة.. وأن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.. وأن الحاكم مدنى من جميع الوجوه.

وبالنسبة للمجال العام؛ تم بلورة مجال عام يكون موضعا للقاء المصريين دون تمييز،حيث اتسم بأنه زمنى /نسبى/ مدنى السمات لا يمكن وصفه بأنه «ثيوكراتيك» (أى دينى) بحسب الإمام محمد عبده. ولا ينفى الإمام وجود السلطان الدينى والسلطة الدينية عن القيادة السياسية العليا للمجتمع فحسب ، بل وينفى اعتراف الإسلام بها أو إقراره لها بالنسبة لأية مؤسسة من المؤسسات التى تمارس سلطة من السلطات. ويقول الإمام:»إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهى سلطة مدنية قدرها الشرع الإسلامى ، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعى حق السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربه، أو ينازعه فى طريقة نظره».

فى هذا السياق يأتى الموقف من الأحزاب وضرورة أن تكون مدنية، وتأتى صياغته لبرنامج الحزب الوطنى المصرى سنة 1881لتؤكد هذا التوجه.ففى المادة الخامسة من هذا البرنامج يقول: «الحزب الوطنى حزب سياسى، لا دينى، (أى ليس حزبا دينيا..وليس بمعنى أنه ضد الدين،بحسب محمد عمارة)، فإنه مؤلف من رجال مختلفى العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه،لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات.. وأن حقوقهم فى السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر». وهو نفس الوقت الذى شهد حوارات راقية بين محمد عبده وفرح أنطون.

من جانب آخر نجد أن التحرير قد جدد المصالحة التاريخية بين الطبقات والأجيال والمسلمين والأقباط والحداثة والخصوصية..الخ.ومن ثم وحدة المدينة المعاصرة.

وفجأة نجد رؤية سلفية تتشح بالدين حصرا تقفز بنا إلى الماضى لا تعترف بالخبرة المصرية الثرية وتستحضر خبرة أخرى من خارج السياق المتعارف عليه وتستأثر لنفسها أن تفتش وتحكم خارج البناء القانونى المصرى الذى هو ثمرة تفاعل جدلى مبدع بين القانون الحديث والشريعة وتفاعل الفقه مع حركة الواقع. و بالأخير التفريط فيما تم إنجازه من تجديد للدولة الحديثة المصرية جرى قاعديا من قبل الناس من خلال نموذج التحرير.

مصر الحديثة هى التحدى وهى الأمل وهى القصة الوحيدة التى يجب أن نتمسك بها وهى فى غير خصومة مع الدين ولابد من التراكم مع أنجزته الخبرة المصرية فى هذا المقام والانطلاق من شرعية التحرير فى مواجهة السلفية. وستظل مصر مدينة واحدة يبنيها كل مواطنيها على اختلافهم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern