(1) «التحول الحرج»؛ مفهوم طرحه رالف جولدتما (أستاذ العلوم السياسية بجامعة سان فرانسيسكو) من رصده للصراعات التى تنشأ بين النخب المتنوعة، وجماعات المصالح، والأجيال، والطبقات، والمذاهب، والأديان، والمؤسسات المختلفة.. إلخ، فى أكثر من بلد، عقب لحظة توحد بينهم فى مواجهة الاستبداد. ففى اللحظة التى تشهد فيها الدول/ المجتمعات تحركا شعبيا ضد الاستبداد. حيث ينجح هذا الحراك فى «خلخلة» الاستبداد ــ بدرجة أو أخرى ــ ومن ثم إخراجه خارج المعادلة السياسية فى تلك اللحظة التى تعد تاريخية بكل المعايير. نجد أنه وفى اللحظة التالية لنجاح التحرك المضاد للاستبداد، أن القوى التى تشاركت فى مواجهة الاستبداد تختلف وتتعارك وربما تحتكم إلى السلاح فى خصومتها.. ومن ثم «يتعثر» أو «يتأزم» أو «يصبح حرجا» أو أقرب إلى «المخاض العسير»: «التحول إلى الحالة الديمقراطية».
(2) وتتسم المرحلة الحرجة بتزايد الخصومات، والانقسامات، وربما يصل الأمر إلى استخدام العنف المادى بين أطراف المعادلة السياسية. وبدلا من الشراكة الوطنية فى مواجهة الاستبداد بتجلياته المتنوعة: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، فإننا نجد تحاربا بينهم. فالكتلة المدنية، بالمعنى السياسى، المقاومة للاستبداد، على اختلاف عناصرها، تختلف فيما بينها. ويدخل على الخط ما أُطلق عليه بقايا أنظمة الاستبداد. وفى المجمل، نحصل على مشهد حرج وصراعى بامتياز.. ولكن لماذا ينشأ الصراع؟.
(3) أولا: لظن قوى الجديد أن موازين القوة قد استقرت ومن ثم يمكن أن تتوزع المغانم. وثانيا: أن أنظمة الاستبداد التى تكونت عبر زمن لن تستسلم بسهولة حتى وإن تم الإطاحة برؤوسها. فهذه الأنظمة تتشكل من شبكات الامتيازات المغلقة ذات الأموال الوفيرة، والكيانات التقليدية المحافظة التى تتوافق حول مقاومة التغيير والتجديد وإن اختلفت الدوافع. وثالثا: التدخلات الإقليمية والعالمية. ورابعا: ضعف المجتمع المدنى وانسداد المجال العام ببعديه السياسى والمدنى.
(4) وملاحظة جولدمان الأساسية هى أن الأحزاب السياسية هى القادرة على استيعاب الاختلاف ومن ثم القدرة على التفاوض المدنى/ السلمى بين الشركاء/ المتحاربين فى «الفترة الحرجة».. وأن الدول التى كان لديها حركة حزبية فاعلة استطاعت أن تستبدل التفاوض بالتعارك، والتوافق بالتخاصم، والحوار بالعنف، والعكس صحيح.. ومن ثم عبور التحول الحرج من السلطوية إلى الحالة الديمقراطية الشاملة التى تمنح الدول/ المجتمعات الاستقرار الحقيقى.
(5) ويبدو لى أن التشوهات التى طالت الأحزاب كونها خرجت من عباءة «السلطة الشمولية» فى تأسيسها الثانى عام 1976، ثم من قماشة «الهيمنة النخبوية» بعد حراك 25 يناير، قد حالت دون أن يكون لها حضور فاعل. لذا كان الغياب. ويبدو لى أيضا أن التحديث الذى جاء من فوق مع محمد على ــ مع تقديرنا له وتفهمنا التام لإنجازه ــ وخروج الطبقة الوسطى المصرية من رحم الدولة الحديثة كان بمثابة إعاقة بنيوية فى تطور الأحزاب المصرية.. كيف؟
(6) فلقد كان حضورها الحزبى: النخبة/ الطبقة الوسطى يعنى استحضار ظروف النشأة السلطوية/ الدولتية. وهو استحضار يتناقض مع قيم المجتمع المدنى والديمقراطية والحداثة والقيم الدستورية والجمهورية. وعليه أصبحنا نرى أحزابا تمارس أدوارا غير سياسية. فالأحزاب التى أطلقنا عليها الأذرع السياسية للكيانات المالية هى أقرب لأن تكون جماعات مصالح. ذلك لأن العضوية الغالبة هى لرجال المال والأعمال. كذلك الأحزاب التى تمثل الأذرع السياسية للدعوات الدينية هى أقرب لأن تكون تجمعات طائفية. إذن نحن أمام أحزاب أحادية الانتماء. وهناك الأحزاب التى هى أقرب إلى المنتديات الثقافية. وهناك أحزاب أقرب إلى الجماعات الدفاعية عن مصالح المرأة، والأقباط، والشباب. كما أن هناك أحزابا هى فى جوهرها ملتقى للشخصيات العامة. ويضاف إلى ذلك الأحزاب التى هى أقرب إلى الروابط الفئوية، والأحزاب العائلية.. إلخ. والأهم عدم وجود أحزاب تعبر عن الشأن العمالى أو الريفى باعتبارهم طبقات اجتماعية لها مصالح أكثر تعقيدا من مجرد الخدمات المباشرة. وفى المحصلة نجد غيابا حقيقيا للأحزاب.. وحضورا «للتنظيمات الأولية».. ومحاولة ملء الفراغ «بأشباه تشكيلات»: هشة، ومتنافرة، وغير معبرة إلا عن أصحابها. ومن المنطقى ألا يكون لديها أى تصورات: برنامج سياسى متكامل...والأهم فى مرحلة التحول: قدرة تفاوضية لعبور الأزمات. قدرة تفاوضية ليس بمعنى «حل المشكلات على طريقة جلسات الصلح العرفية» وإنما بمعنى التوافق على قواعد قيمية ومؤسسية تصب لصالح التطور الديمقراطى. وهى عملية غاية فى التعقيد.. نفسرها فى مقال لاحق.. ونواصل.