الأحزاب والغياب...(1) من السيطرة الشمولية إلى الهيمنة النخبوية

(1)

مرت خلال هذا الشهر الذكرى الأربعون لإعادة تأسيس الأحزاب. ففى 1976 قام الرئيس السادات بتحويل المنابر الثلاثة التى تكونت فى 1975:منبر اليمين، ومنبر الوسط، ومنبر اليسار، إلى أحزاب ثلاثة هى: حزب مصر (منبر الوسط)، وحزب التجمع (منبر اليسار)، وحزب الأحرار (منبر اليمين). ويعد هذا التأسيس التاريخى هو الثانى التذى تعرفه مصر بعد التأسيس الأول الذى تم فى عام 1907 من القرن الماضى. وقد مرت هذه المناسبة ــ لن أقول فى صمت ــ ولكن فى هدوء شديد. إلا من احتفالية التجمع، وندوة نظمها مركز الأهرام

للدراسات السياسية والاستراتيجية. وكنت أتصور أن هذه المناسبة كانت تحتاج منا جميعا: الأحزاب، ومراكز البحث، والإعلام بأشكاله،…، إلخ، إلى وقفة لتقييم واقع الأحزاب السياسية فى مصر، سواء التى تأسست منذ 40 عاما أو بعد 25 يناير. وقد بلغ عددها ما يقرب من المائة. والأهم أننا لم نزل فى مرحلة تحول ديمقراطى دقيقة.

(2)

وقبل أن نحكم على التجربة الحزبية سلبا أو إيجابا. لابد أن نطرح بعض الأسئلة الضرورية كما يلى: أولا: هل لم تزل الأحزاب ضرورة فى حياة الدول/ المجتمعات؟، ثانيا: هل يمكن أن يحدث تطور سياسى وتحول ديمقراطى دون الأحزاب السياسية؟، ثالثا: ما هى الإعاقات التى تحول دون انتظام المواطنين فى الأحزاب على اختلافاتهم؟؛ رابعا: وما هى المسؤولية التى تقع على الأحزاب؟.. يبدو لى أن هناك ضرورة لإجراء مراجعة تاريخية سريعة لتطور التنظيمات السياسية على مدى نصف القرن الفائت.

(3)

بالرغم من أن الظاهرة الحزبية تعانى التراجع، بعض الشىء، فى كثير من البلدان حتى التى قطعت شوطا متقدما فى التجربة الديمقراطية. إلا أن الأحزاب لم تزل هى المؤسسات الشرعية المنوط بها تنظيم الحراك السياسى للمواطنين المتماثلين فى المصالح. والأهم هو أن التراجع الذى أشرنا إليه لا يعود إلى ضعف الفكرة الحزبية، وإنما إلى تعدد أشكال المشاركة فى المجال العام: السياسى والمدنى. فهناك النقابات، والاتحادات، والروابط، وجماعات الضغط. وبالطبع يضاف إلى ذلك الأشكال المحدثة من ممارسة المواطنة إطار المجال الرقمى.. وعليه تتجدد الأسئلة التى طرحناها وملخصها: لماذا تغيب الأحزاب؟.

(4)

فى ظنى، أننا لم نتحرر بعد من «لعنة» التأسيس الذى خرج من العباءة الشمولية.. فلقد عاشت مصر منذ مطلع الخمسينيات تحت مظلة التنظيم الشمولى: هيئة التحرير، المؤتمر القومى، الاتحاد الاشتراكى. وإذا كان هذا مقبولا فى حينه، نظرا أنها مرحلة «الزعيم- الجماهير» إلا أنه لم يكن مقبولا عندما اُتخذ القرار السياسى فى 1975 بالأخذ بالنظام الحزبى التعددى. ولكن التنفيذ جاء فوقيا وبمنطق شمولى. فكانت الأحزاب تحت السيطرة الشمولية.. وكانت كل محاولات البناء الحزبى تواجه بالحصار وبالقمع. ومع مساحة الحرية النسبية التى عرفتها مصر أثناء الفترة من 1982 إلى 1984 والتى انتهت بأول انتخابات برلمانية فى زمن مبارك استطاعت الأحزاب أن تخوض معركة انتخابية طيبة، حتى التيار الدينى كان حاضرا فى سياق توافقى معقول ومقبول. إلا أن الشروط المتعسفة التى وضعها قانون الانتخابات آنذاك مثل: الأخذ بالقائمة المطلقة، وشرط الـ10 % (قلل إلى 8%) قد وجه دفة المسار الديمقراطى إلى مرحلة جديدة.

(5)

هى مرحلة كانت صيغتها «الحزب الحاكم- الجماعة الدينية وأحزاب الأقليةـ الزبائن السياسية»؛ وهى المرحلة التى تم تقاسم العمل السياسى فيها بين ما أطلقت عليه مبكرا الشبكة والجماعة (أقصد شبكة الامتيازات المغلقة أو القلة الثروية والجماعة الدينية). ولم يكن التنافس بينهما حول برامج سياسية بقدر ما كان حول خدمات عينية ومادية تقدم للمواطنين، وذلك لتعويض الآثار السلبية للسياسات الاقتصادية التى طالت الشرائح الوسطى من المجتمع وبالأكثر الشرائح الدنيا. وعليه تحولوا عمليا بحسب التعبير المتعارف عليه إلى زبائن سياسيين؛ وهذه المرحلة امتدت إلى ما يقرب من ثلاثة عقود.

(6)

وجاءت 25 يناير، وغاب الحزب الحاكم الممثل للشمولية. وتأسست الأحزاب وتعددت حتى بلغ عددها المائة. ولكن يبدو لى أن الحراك السياسى الذى جذب الكثيرين من المواطنين قد وقع فى أسر الهيمنة النخبوية: الثروية، والدينية؛ فجاءت الأحزاب الجديدة أقرب للأذرع السياسية للثروة والدين.. وقد نجحت هذه الصيغة لفترة ولكن سرعان ما تراجعت.. لماذا وكيف؟.. ونواصل…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern