الأحزاب والغياب...(6): نزعة «اللاتسييس» تدمر الحزبية والسياسة معًا

«نزعة اللاتسييس»؛ تعبير أطلقه المنظر والمناضل السياسى الإيطالى أنطونيو جرامشى (1891 ـــ 1937)، فى وصف الكتلة المجتمعية التى لا تعرف أن تنظم نفسها من أجل الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية. ويعود عدم معرفتها إلى غياب الوعى بمصالحها ومن هم خصومها الاقتصاديون، أو أنها غير قادرة على التفاوض المجتمعى، عبر قنواته المتعارف عليها وعلى رأسها الحزب، لإدارة مصالحها إما لأنها لم تدرب عليه أو تخشى نتائجه، أو لأن المجتمع لم يدخل بعد الحداثة ومن ثم تسلم الكتلة المجتمعية أولى الأمر إدارة شؤونها،

أو تلجأ إلى تصريف أمورها إلى جماعاتها الأولية لتتحدث نيابة عنها، أو تستسلم لما يعرف بالديمقراطية الأثينية، حيث الأرستقراطية الحاكمة أو المختارة هى وحدها من لها الحق بممارستها حيث بقية المجتمع لا تستحق ذلك لأنها لم تزل من «الرعايا»،...، إلخ، أو كل ذلك معا.. إنها حالة تنزع (تسلك وتتحرك) فيها الكتلة المجتمعية إلى السلبية حيث يسود «اللاتسييس» “Apoliticis، بحسب جرامشى (فى كراسات السجن ــ ترجمة المستشار عادل غنيم 1993 ـــ حيث كان يتأمل أحوال السياسة الإيطالية).

(2)

ونزعة «اللاتسييس»، ليست ظاهرة قدرية أو طبيعية يولد الناس بها. وإنما هى ظاهرة مقصودة من قبل أصحاب المصالح لمنع التنافس السياسى وبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه. مرة بحجة أن المجتمع غير جاهز للديمقراطية، أو أنها ليست للعوام، وأحيانا يستخدم البعض تعبير «الرعاع» (سرا)، ومرة بأن السياسة عملية خطيرة وتبعاتها مؤلمة. ومرة بأن الجمهور معنى «بلقمة العيش»، ومرة بتحويل العملية الديمقراطية من طبيعتها السياسية إلى ممارسة ما قبل حديثة من خلال تضامنات أولية وبدائية لا تعكس نمط وطبيعة العلاقات الحقيقية فى المجتمع. حيث يتم «لا تسييس» العملية الديمقراطية باختزالها فى الخدمات، والمكاسب المباشرة، والترضيات السطحية.. ومن ثم لا تقترب من ضمان تحقيق الحقوق بأبعادها: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية،.. إلخ، أو تطوير المؤسسات وضمان الفصل بينها، وتفعيل الدستور فى حياة المواطنين، وإنتاج تشريعات تعالج القضايا الحياتية لهم بما يضمن توازنا مجتمعيا بين مكونات الجسم الاجتماعى على أساس دولة المواطنة لا دولة الملل أو الكتل المجتمعية التى تعيش بمعزل عن بعضها البعض. حيث تتواصل عبر: الوكلاء، والوسطاء.

(3)

هذا هو الفارق بين التفاعل السياسى بين المواطنين غير المتماثلين من أجل الوصول إلى تسويات وتوافقات حول المصالح الاقتصادية، وإقرار ما يصلون إليه بما يصب فى تقدم المجتمع/ الوطن. وهذا هو جوهر العملية السياسية. وبين النزاع على الامتيازات لكل كتلة بمعزل عن الأخرى، حيث تعود كل كتلة إلى خندقها عقب كل نزاع.. إنه الفرق بين التوافق بعد عملية تفاوضية تقوم على السياسة والاقتصاد والثقافة، وهدف جماعى فى بناء دولة المواطنة وإن اختلفت المصالح الطبقية، والرغبة فى استمرار العملية السياسية. وبين «فصال» ينشأ بين كتل مجتمعية حول امتيازات آنية وجزئية لا سياسية. حيث تعود كل كتلة إلى خندقها بمجرد الحصول على طلباتها من «أفندينا»، أيا كان موقعه فى الجسم المجتمعى.. وعليه تتحول الكتل المجتمعية إلى كتل «كمية»، رديئة، بحسب تعبير جرامشى مرة أخرى.

(4)

وفى حالة «اللاتسييس»، تكون الأحزاب شكلية، أو كرتونية بحسب التعبير المصرى، حيث تغيب« وحدة الرؤية بين الأعضاءن وتتفاوت العضوية من حيث الرابطة الطبقية والعملية، وأخيرا التماسك الحزبى. وقد شرحنا ذلك فى الحلقات السابقة حول ما أطلقنا عليه: أحزاب الكتل التصويتية والجماعات الأولية، والأذرع السياسية ـ تجاوزا ــ للثروة والدين. حيث تصير أحزاب عابرة، مؤقتة، «سد خانة»، لا تصمد أمام التحولات، ولعل تجربة حزب مصر العربى الذى تحول إلى الوطنى بين ليلة وضحاها أسوة.. إنها أحزاب منزوعة السياسة ومجردة القاعدة الاجتماعية ولا تعبر عن طبقة: declasses/de - social bases.

(5)

ما أحوجنا إلى إعادة الاعتبار إلى السياسة. وعدم الخوف منها. والوعى بأهمية التنظيم السلمى وفق الرؤى السياسية والتصورات الفكرية التى تعبر عن مصالح الطبقات الاجتماعية باعتبارها المكونات الحقيقية للجسم الاجتماعى. ما يكفل الحضور الجماهيرى الحزبى والمشاركة والوطنية السياسية وفق تنافس سلمى وتفاعل وطنى بناء، لا تنازع عنفى خارج المجال السياسى وتصارع فكرى تكفيرى وتخوينى.. إذن،علينا إحياء السياسة رغما عن دعاة «اللاتسييس» الذى فى جوهره بقاء الحال على ما هو عليه لصالح القديم.. ونواصل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern