تحل فى هذا العام الذكرى المئوية لتأسيس الأحزاب السياسية, حيث يعتبر عام 1907 هو عام ميلاد الأحزاب المصرية. جاء تكوين هذه الأحزاب نتيجة لجهد المصريين الذى بدأ قبل عقود فى محاولة تقييد سلطة الحاكم والتى ظهرت إرهاصاتها مع الخديو إسماعيل من جهة, وحاجة الطبقات والشرائح الاجتماعية الآخذة فى التبلور أن تعبر عن نفسها سياسيا.
وبالرغم من محاولة البعض الإيحاء بان النموذج الحزبى المصرى ما هو إلا نقل للنموذج الحزبى الغربى, إلا أنه وبحسب يونان لبيب رزق فأن الحياة الحزبية فى مصر قد نشأت لمواجهة الاحتلال البريطانى, بينما على النقيض انبثقت الأحزاب الأوروبية من خلال البرلمان حيث شكلت كل قوة اجتماعية ذات مصلحة وأيدولوجية واحدة حزبها. فى الحالة المصرية وجدنا العداء للإنجليز يأتى أولا وقبل التوافق السياسى بين أعضاء الحزب الواحد, على العكس من الحالة الأوروبية حيث التوافق الاجتماعى والمصالح الطبيقية أولا, وهو ما جعل تأسيس الصحف فى مصر يأتى قبل تأسيس الأحزاب للتأثير فى الرأى العام على عكس ما جرى فى أوروبا. على أن ما يهمنى إلقاء الضوء عليه بهذه المناسبة هو الطبيعة المدنية للأحزاب والتى ارتضاها المصريون مع مطلع القرن العشرين بمباركة رموز الفكر الإسلامى آنذاك. كيف؟
بالرجوع لما تضمنته وثيقة الحزب الوطنى الأهلى الذى تكون فى عام 1879 – والذى مثل إرهاصة للأحزاب التى تبلورت لاحقا بداية من عام 1907 – نجد ما يلى: “الحزب الوطنى حزب سياسى لا دينى. فإنه مؤلف من رجال مختلفى الاعتقاد والمذهب وجميع النصارى واليهود. ومن يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منضم لهذا الحزب فأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات… وحقوقهم فى السياسة والشرائع متساوية. ويشار إلى أن الإمام محمد عبده قد راجع ووافق على ما جاء فى هذا البرنامج.
وعندما بدأ تأسيس الأحزاب عام 1907 نجد الإصلاح على المبادئ الدستورية ورئيسه الشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد, ينص فى برنامجه على أن: “تعطى الوظائف فى المصالح المصرية للوطنيين بمقتضى الكفاءة والاستحقاق.”
“لايجوز لهذا الحزب خلط الدين بالسياسة ترويجا لها. ولكن له الحق فى إبداء رأيه فى إعمال المصالح الدينية, ونقدها بما يؤدى إلى إصلاح إدارتها… ” أما الحزب الوطنى – التاريخى – حزب مصطفى كامل فنص فى برنامجه على “إقامة حكومة دستورية يكون الحكام فيها مسئولين أمام برلمان يتمتع بالسلطة اللزمة كبرلمانات أوروبا…”
وتقارب عنصرى الأمة: المسلمين والمسيحيين وتعريف كل مصرى بالواجبات التى عليه القيام بها…” أشرت إلى الطبيعة المدنية للتجمعات السياسية التى أخذت فى التبلور فى إطار الحركة الوطنية المصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر, والتى كانت مدركة لعدم الخلط بين الدينى والمدنى, بغير خصومة مع الدين من جهة, وبمباركة رموز الفكر الإسلامى “الإصلاحى” (بتعبير د.عمارة) المعتبرين, آنذاك, نجحوا يقينا فى التعبيير عن الخبرة المصرية, فنقرأ للأستاذ الأفغانى مدافعا عن الديمقراطية الليبرالية وعن أهلية الشعب المصرى لها قائلا: ” انظروا إلى العالم الغربى, ترونه على تقسيماته الحاضرة, واستقلال عناصره بميزاتهم القومية, وأهمها العلم بالواجبات, سواء كانت لهم أو عليهم, ومعرفة وجوه المطالبة بها, والمساواة لأدائها, وسوق الأمة على هوى السلطان. ويبشر بأن ما حدث فى الغرب من زوال سلطان الحكم الفردى سيعم غير الغرب أيضا… وسينتفى هذا النوع من الحكم المطلق… وأن ذلك سيحدث عندما يصبح الحكم للعقل والعلم, لأنه متى فشا العلم فى الأمة فأول ما تناهض ذلك الشكل من الحكم, أنها سنة الله فى خلقه,ولن جد لسنة الله تبديلاً.” ونراه يشدد على “السلطة الزمنية وأن الغاية المقصودة منها هى العدلل المطلق”. إن حياة الأفغانى فى مصر واستيعابه لخبرة المصرية التى كانت تشهد إرهاصة بناء دولة حديثة وتحرك سياسى من جهة, كذلك فهمه للشورى من جهة, ولاطلاعه على الخبرتين الأوروبية واليابانية من جهة ثالثة, قد دفعته أن يكون عاشقا للحكم الدستورى, منافحا عن سياسة أمور المجتمع بواسطة البرلمان والنواب, الأمر الذى جعله يجاهد ليجعل من مصر النموذج الذى يطبق فيه أفكاره (التى كانت تعبر عن إيمانه بسلطان العقل, والعدل الاجتماعى, والوطنية والقومية..) حتى يقدم لشعول الشرق القدوة التى تحتذى فى هذا السبيل. لقد ساهم الأفغانى بأفكاره حول الدستور والحكم النيابى ومدنية العمل السياسى فى إطلاق ثورة عرابى والحياة الحزبية لاحقا بل فى تفجير ثورة 1919 باعتراف سعد زغلول.
على الجانب الآخر نجد الإمام محمد عبده حاسما فيما يتعلق بطبيعة السلطة السياسية فى المجتمع. فلقد كان رافضا أن يكون نصيرا لقيام سلطة دينية فى المجتمع بأى وجه من الوجوه ويقول: ” إنه ليس فى الإسلام سلطة دينية, سوى سلطة الموعظة الحسنة… وأن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها… وأن الحاكم مدنى من جميع الوجوه. إن هذا الموقف هو الذى قاد الرجل إلى الإيمان بمدنية السلطة فى المجتمع, ومدنية مؤسسات هذا المجتمع, ومن ثم إلى اتخاذ الطابع القومى المدنى, الذى لايفرق بين المواطنين والقومية والوطنية).
دخلت مصر القرن العشرين وهى تواجه: الخديو, الاستعمار, الفقر, وتؤسس لضمان حق التعبير السياسى, من خلال مجال سياسى مدنى الطابع يتحرك فيه المصريون دون تمييز, ونقصد بالمجال السياسى, المجال الذى يتحرك فيه المواطنون بصرف النظر عن انتماءاتهم – معا – من أجل وطنهم. ولأن هذا المجال السياسى مدنى (زمنى) الطابع أى نسبى فانه يسمح بالختلاف بين الرؤى والتصورات حول القضاي المطروحة التى تهم الوطن. حدث هذا بغير خصومة مع الدبن من جانب, وعدم تطبيق مايصفه الإمام محمد عبده “الثيوكراتيك” أى الدولة الدينية. المفارقة أننا نبدأ القرن الحادى والعشرين والبعض منا يحاول أن يضفى طابعا مقدسا على المجال السياسى العام, أى يجعله دينى الطابع الأمر الذى يستحيل فيه الاختلاف لأن حدوثه يعنى الاختلاف مع المطلق خاصة مع خلط بعض الجماعات بين “الدعوى- الدينى” وبين “المدنى- السياسى” ورفض هذه الجماعات فك الارتباط بينهما. هذا بدلا من استكمال بناء الدولة الدستورية المؤسسة على عقد اجتماعى يقوم على توازن الحقوق والواجبات بين المواطنين والدولة, وعلى التداول السلمى للسلطة, وعلى المشاركة فى الحكم من خلال نظام ديمقراطى تمثيلى, وعلى احترام كيان المواطن – الفرد فى خياراته الفكرية والسياسية والمعتقدية. إن مثل هذا الاجتماع السياسى – المدنى (بحسب د.كوثرانى) من شأنه إذا ما نما وتطور أن يطلق ما يمكن تسميته “بالأفق المدنى” الذى يستلهم الدين الحاضر فى الحياة وليس فى السياسة, وهو مانحتاج الحديث عنه فى عام مئوية الأحزاب المصرية.