تشهد الحياة السياسية المصرية – منذ فترة – كثيرا من المعارك التى قد يراها البعض طبيعية مع تعدد منابر التعليم وارتفاع سقف حريته, بيد أن المتأمل لهذه المعارك وما يرافقها أحيانا من اللغة تكفيرية التى يتم تبادلها والتلويح باستخدام القوة أخيرا من قبل أحد أطراف العملية الديمقراطية لتغليب وجهات النظر قسرا سوف يشعر بالقلق الحقيقى لما تمثله هذه الممارسات من إعاقة حقيقية للديمقراطية.
ان شعور أحد أطراف العملية الديمقراطية بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن باقى الاطراف عليهم التحرك تحت سقف أطروحات بعينها باعتبارها مطلقة وغير قابلة للنقد, وهو ما يعنى اضفاء المقدس على المجال العام, إنما يعد أمرا خطيرا لأن المجال العام, إنما يعد أمرا خطيرا لأن المجال العام الذى تلتقى فيه كل أطراف العملية الديمقراطية هو نسبى حيث من المفترض أن يجتهد كل طرف فى وضع أفضل ما لديه من تصورات وبرامج, والتى بطبيعتها نسبية وقابلة للنقاش والأخذ والرد, لنأخذ مثلا موضوع اعاد دستور جديد, بغض النظر عن النقاش الدائر حول جدوى ذلك فاننا نجد من يحذر الاخرين من الاقتراب من بنود بعينها لان ذلك قد يعنى إراقة للدماء, أو نجد مثل الذين ينظرون ثورة 1919 باعتبارهاعقوبة الهية على المصريين مشكلا ذاكرة وطنية مغايرة ومتجاهلا تاريخ الحكومة الوطنية المصرية والانجاز المشترك لعناصرها أو تقييم رموز هذه الحركة بأن هذا علمانى وذاك كافر, وهكذا بالطبع كلما تعددت الذاكرات شطت الامة, وكلما وضعنا المحاذير والقيود على أى حوار تتعثر العملية الديمقراطية, ومتى فقدنا علاقتنا بتراثنا الوطنى وكأننا نبدأ من أول وجديد فاننا سوف نفقد المستقبل.
إنها مظاهر مقلقة ولاشك انها تتناقض مع جوهر الديمقراطية التى تقوم على التعددية وحية ابداء الرأى من دون التعرض لتهمة التكفير وتعوق المواطنة التى هى تعبير عن حركة الناس اليومية مشاركين ومناضلين لاكتساب الحقوق بأبعادها المدنية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية على قاعدة المسارواة مع الآخرين من دون تمييز, واندماج هذا المواطن فى العملية الانتاجية بما يتيح له اقتسام الموارد العامة مع الآخرين.
فقد قامت الديمقراطية تاريخيا على التعددية من خلال حركة الناس لاكتساب الحقوق, هذه الحركة التى تعبر عن المواطنة وذلك من أجل المساواة بين الجميع من دون تمييز, وقد تبلورت حقوق المواطنة مراحل بداية بالتمثيل السياسى فى المجالس النيابية فعرفت المواطنة فى بعدها السياسى, ثم كان الاهتمام بتحقيق المساواة أمام القانون أى المواطنة المدنية, ومع التطور الاجتماعى والطبقى استوجب الامر توفير الضمانات الاجتماعية أى المواطنة الاجتماعية – الاقتصادية, واتسمت المسيرة التاريخية للمواطنة بان حركة المواطنين كانت تحكمها مصالح طبقية بالاساس ولكن مع أواخر القرن العشرين بدأ تنامى صعود الهويات الثقافية الدينية والعرقية والجنسية بشكل غير مسبوق فى تاريخ البشرية, Cultural Citizenship فى هذا السياق طرح مفهوم المواطنة الثقافية, Brayan S. Turner أو الواطنة فى بعدها الثقافى والذى طرحه برايان ترنر أحد أهم من نظر للمواطنة والتى تعنى حق الخصوصيات الثقافية المتنوعة أن تمثل فى المركب الثقافى للمجتع, وأن تكون حاضرة فى شتى المجالات وان تعبر عن نفسها بتكافؤ, ويترتب على هذا الحق أن كل مكون من مكونات الجماعة الوطنية فى مجتمع بعينه من حقه ان يكون معروفا بدقة من قبل الآخر وان كل مكون من حقع أن يعبر عن نفسه دون خوف فى المجال العام مما يدعم العملية الديمقراطية شريطة تأكيد المساواة بين كل المكونات بغض النظر عن الوزن النسبى لكل مكون, ومن ثم تتحقق المواطنة الثقافية والتى نوجز عناصرها فى تمثيل الهويات الثقافية الخاصة فى المركب الثقافى العام بالتساوى وإدراج التاريخ الثقافى للخصوصيات المتنوعة ضمن الذاكرة القومية وحرية التعبير الكاملة للخصوصيات وإبراز المنظومة الرمزية الخاصة بكل خصوصية بصورة يألفها الجميع, وبالطبع تتوزع مسئولية تأكيد ماسبق على عدة جهات مثل التعليم والاعلام والثقافة وكيانات المجتمع المدنى , ان هذا الحضور العام الذى لايستثنى اى طرف انما هيعنى تعددا لا حدود له للرؤى والافكار والتى يتم اختبارها فى اطار ما أسميه المجال الحيوى الجامع بدون محاذير أو قيود بشكل ديمقراطى حوارى رصين, اخذا فى الاعتبار ما طرحه الان تورين ان الديمقراطية تقاس بدرجة التنوع الذى تديره قوانين مجتمع ما حيث كل واحد منا بات مشروعا مستقلا بذاته وعلى المجتمع ان يعترف بالحقوق الاساسية وبحرية وهوية كل فرد.
وعليه اصبحنا نشهد تنوعا كبيرا فى داخل التيار الواحد والخصوصيات والثقافة المتعددة والتى لايمكن التعامل معها بالتكفير أو بالقولبة أو السلطوية, وفى ظنى أن الحالة المصرية تتميز بالأساس فى قدرتها على استيعاب التعدد من دون هيمنة مكون على باقى المكونات, ان عبقرية مصر الحقيقية فى انها مركب حضارى لايمكن اختزال عناصره لحساب عنصر واحد وهو ما يستوجب تفعيله, فى ضوء ماسبق سوف نجد كثيرا من القضايا بات من المحظور الحديث حولها وكأنها محسومة, وان من يعيد طرح الحديث حولها فى ضوء المستجدات فانه يعد من الكافرين مثل هوية مصر أو المادة الثانية من الدستور. اذ من الاهمية بمكان الاقرار بحق الاخرين فى النقاش تفهم وجهات نظرهم حول هذه القضايا دون التهديد باراقة الدماء لمن يجرؤ على فتح هذا الملف أو ذاك, ومتى استطعنا ان نسلك هذا لسلوك فاننا نقق المواطنة الثقافية.
وصفوة القول ان على الفاعلين الاساسيين فى العملية الديمقراطية القبول بالتعددية, وان هنا اخر قد تكون له رؤية مغايرة تعددية على قاعدة المساواة بغض النظر عن الاوزان النسبية للاطراف, والا يصادر رأى لانه يأتى فى نظر أحد الاطراف من طرف ادنى أو من أقلية أو من طرف لديه مرجعية مغايرة, وهكذا وهو ماسيشجع الاغلبية المنصرفة على الحضور الفاعل بغير خوف من تكفير, ومن ثم يصبح المجال العام جامعا لكل مكونات المجتمع بغير تمييز, وعليه فانه بمقدار ما تفعله المواطنة الثقافية بمقدار ما يكون لكل مكونات الجماعة الوطنية وتصبح التعددية حقيقية وضرورة التقدم.
ونختم بكلمات “أدونيس” التى يقول فيها تاريخ المجتمع هو تاريخ الجهر بأفكاره وتاريخ الجهر بتعدديته, دون هذا الجهر لا يكون المجتمع إلا ركام أشياء المجتمع –
المجتمع الذى لايفكر متعددا, وجهرا, لا يمكن أن يخلق معنى انسانيا عظيما انه يعيش خارج المعنى
الاحادية صحراء
زوال التعددية فى المجتمع زوال لتاريخه
المجتمع نفسه يفقد اجتمعيته ويتحول الى قطيع-
الوجود هو ان يقال بأفكار وطرائق متعددة ذلك أن الوجود تحديدا متعدد-
لا أحادية إلا أحادية الخالق
الآخر الحر شرط لوجودى الحر