ما أن يجتمع بعض الأشخاص ويتجاذبون أطراف الحوار فإننا نجد الحديث يتعرض للأحوال، ومدى صعوبتها، ومتى تتحسن الأحوال. في هذه السطور محاولة للاقتراب من أحوالنا، من خلال التأمل في بعض المظاهر التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن لب الموضوع
" أحوالنا"،وسوف نستعين في الفهم بكل ما يعيننا في ذلك من قراءات معرفية،لأننا نؤمن أن سبيلنا الوحيد للتقدم هو الفهم القائم على المعرفة والعلم.
كانت للفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو في كتابه السياسة مقولة تقول أن المجتمع يمر في أطوار أو مراحل متعاقبة تعكس تطوره.ففي البدء تكون العائلة والتي تعد الجماعة الأولى التي كونتها الطبيعة من أجل إشباع الحاجات الأولية، ثم ظهرت القرية، وهي الجماعة المشكلة من عدة عائلات بغية إشباع حاجات لم تعد تعتبر يومية بصفة بحتة.وأخيرا ظهرت المدينة، التي تتميز بالاستقلال الاقتصادي وتمتلك القدرة على كفاية ذاتها. ولم تزل أطروحة أرسطو مقبولة في عموميتها، ولكن مع التطور العلمي تعددت التفسيرات ولكنها تدور في فلك ما طرحه أرسطو.
ففي أوروبا مثلا ارتبط ظهور ونمو المدينة بقيام الثورة الصناعية وبالدور الإيجابي الذي لعبته هذه المدن في تطوير القوى الإنتاجية داخل مجتمعاتها كمراكز للتقدم العلمي والابتكار التكنولوجي وكمراكز رئيسية للإنتاج والتوزيع. فماذا عن مصر؟
يشير العالم الجليل محمد شفيق غربال في كتابه المرجعي "تكوين مصر"،إلي أن نصيب القرى في تكوين المجتمع المصري يعد هاما جدا،ذلك أن انتقال الحكم من أسرة أو من مجموعة من الأسرات إلى مجموعة أخرى إن هو إلا توكيد متصل لاحتفاظ نواحي المملكة بعصبية محلية قوية تستند إلى أساس من التقاليد والواقع.وبفعل النهر واستجابة لتحدي الجفاف تم الاستقرار أسفل الوادي وتحويله إلى مزارع ممتدة يضبطها نظام ري مركزي صارم.وفي ضوء ذلك قسم المجتمع المصري بين قلة من الحكام (الآلهة) وأغلبية من الرعية تعمل في الإنتاج. وكان من الطبيعي أن يحاول أولئك الحكام الآلهة أن يؤبدوا نفوذهم في ذريتهم وأن يوصدوا الأبواب دون الدخلاء. بيد أن عامل الاختيار والفناء الطبيعيين كان يحول دون ذلك من جانب، كما أن فرعون بصفته منبع التشريعات والهبات كان حريصا أن يرفع من هم في حاجة إليهم. على الجانب الآخر حرص الحكام الآلهة على تقييد الرعية بالتشريعات الخلقية لكفالة حسن السلوك وظلوا راضين قانعين.
ظلت مصر مجتمعا ريفيا على مدى آلاف السنين من تاريخها، وكانت السمة الحضارية لمصر هي حضارة الريف. ولم تتكون المدينة في مصر إلا مع الإسكندر الأكبر،وذلك بتأسيس مدينة الإسكندرية التي أصبحت مركزا حضاريا على المستويين العلمي والفكري. بيد أنه مع قدوم الرومان وبقاء الحاكم وافدا على مدى قرون لاحقة تراجع دور المدينة وظل الريف المصدر الرئيسي للإنفاق على الوافدين من الحكام، وعلى الجيوش التي تتكون من عناصر غير مصرية، وأخيرا لدفع الضرائب التي كانت دائمة التزايد
وبالرغم من اهتمام الحكام المسلمين في مصر الإسلامية بتكوين المدن إلا أنها لم تتجاوز أن تكون مراكز للحكم والإدارة والخدمات وتظل – بتعبير نبيل كامل مرقس في دراسته المتميزة عن نسق السكن في الثقافة النوبية- هذه المدن" طفيلية" إلى حد كبير على القرية مركز الإنتاج الحقيقي. بقي الحال على ماهو عليه من اختلال بين الريف والمدينة،حيث القرية تنتج من أجل المدن التي لم تستطع أن تبلور قدرات إنتاجية تمكنها من أن تنطلق وتؤدي دورها الحضاري .
وكانت نقطة التحول مع بدء تبلور طبقات اجتماعية في مطلع القرن العشرين نتيجة للحراك الاجتماعي الذي حدث في مصر مع تأسيس الدولة الحديثة،الأمر الذي ساهم في بدء تأسيس تشكيلات على أساس مدني من جمعيات وصحف وأحزاب وكيانات ذات طابع إنتاجي صناعي.في ظل هذا التطور انطلقت المدينة- مثلما حدث في وقت الاسكندر- لتقوم بمهامها الحضارية حيث بدأت في التبلور قوى إنتاجية كانت بمثابة الوقود المغذي للمدينة الجديدة.واستمرت القرية في نفس الوقت تلعب دورها التاريخي ولكن الجديد هو تبلور حركة وطنية تحميها – بعض الشيء - من استغلال ما قبل تأسيس الدولة الحديثة،وتراكمت هبات الناس على مدى القرنين 18 و19 من خلال ثورة 1919. لقد حدث نوع من التوازن النسبي بين القرية والمدينة. واستمر هذا الوضع مع تنامي حركة التصنيع. وعكس هذا التوازن بين دوري القرية والمدينة خلال هذه الفترة نموا لفكرة الدولة وفي القلب منها فكرة المواطنة.
ولكن مع تراجع حركة التصنيع، حدث تخلف واضح في القوى الإنتاجية فأصبحت المدينة كيانا مصطنعا وغريبا، فباتت عبئا، خاصة مع تزايد احتياجات من يسكنها من ضرورة توفر الخدمات الأساسية. وفي نفس الوقت تدهورت حالة القرية المصرية التي باتت طاردة لأبنائها، سواء بالهجرة إلى المدينة أو إلى خارج مصر، كذلك التعدي على الأرض الزراعية الذي ضيق الفرص أمام أهل القرية؛ فماذا كانت النتيجة؟
حدثت هجرة كثيفة من الريف إلى حدود المدن وتكونت مع الوقت المناطق العشوائية التي بحكم التعريف ينقصها الخدمات بأنواعها وترتفع فيها معدلات الأمراض وتتسم بالفقر والجهل.وتتسم هذه المناطق بأنها تؤسس مساكن مؤقتة- في البداية- تؤدي إلى ظهور أحياء تعرف "بالحافة الغضة"(راجع د.ثروت اسحق في المجتمعات الهامشية العشوائية). ولكن سرعان ما تحولت هذه الأحياء المؤقتة إلى مناطق دائمة وتم تقنينها. وفي نفس الوقت أخذت المدن تتحول رويدا رويدا إلى امتدادات لهذه العشوائيات،وضاعت الحدود بين القرية والمدينة،وذابت الملامح المميزة لكل منهما،وتحولت مدينة القاهرة –وغيرها من مدن – إلى القاهرة الكبرى التي باتت تعبيرا حيا لغياب القرية والمدينة. فالمناطق العشوائية التي وجدت في ظروف استثنائية على الحدود بين الريف والمدينة أصبحت هي النمط السائد،ويمكن لمن ينظر بدقة للمنطقة التي تربط القاهرة من ناحية عزبة النخل والخصوص بالسلام وميت نما من ناحية القليوبية أن يتأكد تماما من خلال النمط المعماري السائد والسلوكيات العامة الغالبة،كيف لعبت العشوائيات دورا تاريخيا في أن تكون همزة وصل بين ريف لم يعد ريفا ومدينة لم تعد مدينة،وتتحول العشوائيات من حالة مؤقتة إلى حالة دائمة.
وغني عن القول، إن ما سبق ذكره لم يكن يحدث ما لم تتراجع القرية والمدينة – كوحدات إنتاجية-عن أدوارها الإنتاجية الزراعية والصناعية. ويمكن القول أيضا أن العشوائيات التي جارت على القرية والمدينة تتسق تماما مع الطابع" الخدمي الريعي" الذي اتجه إليه النظام الاقتصادي من سياحة وسنترالات خاصة ومولات وكافيهات وتوكيلات وشحن لكروت اتصال المحمول وتحميل للوجوهات والرنات والأغاني،وتسويق السلع...، الخ. في هذا السياق صعدت نخبة الاقتصاد الريعي – الوكلاء والوسطاء وفي أحسن الأحوال أصحاب الصناعات التجميعية- ولم تجد لنفسها مكان في المدينة، ليس فقط لأنها أصبحت امتدادا للمناطق العشوائية المحيطة بها من كل جانب ، وإنما أيضا لان المدينة من الأصل كانت ثمرة للتطور الداخلي للقوى الإنتاجية مع مطلع القرن العشرين وحتى سبعينياته. وعليه و بحكم العلاقات الاقتصادية الوطيدة بمركز النظام الاقتصادي العالمي خاصة في جانبه الخدمي،أسست النخبة الاقتصادية الجديدة ما يعرف "بالمجتمعات المغلقة"Closed/Gated Communities. وهو نمط عرف في أمريكا، لا يعبر فقط عن مجرد تجمع سكاني، وإنما هو جزء من تحول اجتماعي أكثر عمقا – كما يذكر مؤلفا كتاب أمريكا القلعة (ترجمة عمر جاد). فالبوابات التي يحرسها الأمن الخاص، تعكس العمليات المجتمعية الجارية في المجالين الاجتماعي والسياسي للأمة، والتي يعتبرها الأمريكيون محاولة لبناء ملاجئ محاطة بأسوار- في غاية الفخامة- ولكنها تزيد من تشرذم النسيج الاجتماعي والاقتصادي.
لقد جرى تصميم هذه المجتمعات للحفاظ على مكانة أصحاب الامتيازات،وخلق حواجز مادية أمام حركة الأفراد من خارج هذه المجتمعات،وفصل سكان هذه المجتمعات عن المدينة التي لم تعد مدينة ،وخلق يوتوبيا حديثة ذاتية منفصلة عن الواقع(ربما نتحدث عن ذلك تفصيلا لاحقا). وهكذا بدلا من أن يتطور المجتمع في إطار توازن بين الريف والمدينة وتبلور للقوى الإنتاجية لكل منهما واندماجهما في إطار الدولة بحسب الخبرة التاريخية للآخرين، ولمصر-بالرغم من قصر مدة هذه الخبرة- فإننا نجد المجتمع يتطور في اتجاه عشوائيات متدرجة بحسب درجة التهجين من منطقة لأخرى ومجتمعات مغلقة،بما يترتب على ذلك من قيم وأنماط تدين وعلاقات اجتماعية واختلاف في الرؤية لمفهوم المواطنة ومن ثم قدرة الدولة على إعمال الاندماج المطلوب،خاصة مع تبلور ميكانيزمات خاصة لدى كل منطقة عشوائية على انجاز ما تريد، وخلق القواعد الخاصة التي تيسر الأمور الحياتية ، والذي ترتب عليه رجوع كل فرد إلى دائرة الانتماء الأضيق بدلا من الاندماج في الوعاء الأعم،فباتت بالأخير العشوائيات بدرجاتها النوعية في مواجهة المجتمعات المغلقة،مما أنتج وضعا عصيا على الحل، ومن ثم تكرار حديث الأحوال بما يحمل من أسئلة . وبعد.. إنها محاولة في تفسير أحوالنا..وأظنها حملت بعض الإجابات.