تعاني مصر منذ العام 1970،من توتر ديني،اتخذ أشكالا عدة من جانب،وارتفعت وتيرته بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة من جانب آخر...ويبدو لي من النقاشات الدائرة حول ملف العلاقات الإسلامية المسيحية بشكل عام،والشأن القبطي بشكل خاص،أن هناك إشكالية مركبة..لن ينفع أن نتجاوزها إلا بمراجعة نقدية جذرية لجميع أطراف هذه الإشكالية..كيف؟
التجزئة الرأسية..بامتياز
يشير – باحث العلوم الفرنسية الشهير برتران بادي – (راجع عالم بلا سيادة،ترجمة لطيف فرج)، إن انتشار التعبئة بين أفراد الوطن الواحد على أساس الهوية الذاتية لكل جماعة تعيش فيه،فإنها لا تحدث أزمة داخلية للنظم السياسية وحسب،لكنها غالبا ما تثير الاضطرابات والتوترات. فكل جماعة باتت تبشر بفضائل هويتها لإحلالها محل فن التعايش الذي هو في كل مكان من أرض الوطن، الأساس الفعلي للسياسي، بغض النظر عن عدد أو قوة أي جماعة. وعندما يحدث أن يميل الحديث نحو:
* نحن وهم؛.. وتتكون أساطير عن كل طرف تدعم بالدين وبالمتواتر من القصص الدارجة بغرض الإعلاء النهائي والحاسم للهوية الذاتية؛..والتحصن بالسجال الديني لكسب الآخر وربما القضاء عليه؛.. فإن ما سبق يعني بلغة العلوم السياسية ما يلي:
• أن العقد الاجتماعي الذي ربما يكون قد أتفق عليه يوما ما لم يعد نافذا أو أنه معطلا،
• غياب فكرة الجماعة الوطنية،
• ضعف المجال الحيوي الجامع .
وفي هذه الحالة وكنا قد أشرنا منذ أسبوعين إلى تعبير الدولة المنهارة التي تتعدد فيها الملفات المتفجرة، فإن هذا التفجر يمتد ليشمل الأمة وأي جهد تاريخي بذل لتضفير رابطة المواطنة..إنها التجزئة الرأسية، أي التجزئة على أساس الهوية والدين والخصوصية وليس على أساس المكانة الاجتماعية أو الثروة أو الطبقة..(وهو ما أشرنا له مبكرا في كتابنا الحماية والعقاب).
وعند الوصول إلى هذه الحالة، تكون النتيجة ما يلي:
• دولة تلجأ إلى حل مشاكل تناحر الهويات أو قضايا التوتر الديني بمنطق الجلسات العرفية،والتي تحكم بفرض غرامة على هذا الطرف أو ذاك الطرف،وتشترط إطلاق سراح من هم قيد التحقيق...وتتنازل عن ممارسة مهامها كدولة عاقلة – بحسب فيبر-ولجوئها إلى التحاور/ الصدام مع باقي الأطراف بمنطق العشم أو القوة المفرطة،وهكذا.
• قوة أو هوية تشعر بأنها الأقوى بحكم العدد والتأثير،تفترض أن هويتها يجب أن تكون المقررة قسرا،لأنها معتبرة فطرية،والمفارقة هنا هو أنها بهذا المعنى تكون قاصرة على نفسها ولا يمكن أن ينضم لهذه الهوية أي أحد له هوية مغايرة..وعليه نفي أو استبعاد الآخر عمليا.
• هوية تجد نفسها محاصرة بين الانكفاء أو تكريس هوية مضادة سقفها مطالبي لا يهدف موضوعيا إلا تحقيق عزلة آمنة..فالدولة غير قادرة على توفير آليات دمج..ولا مآل إليه الحال يسمح بأكثر من هذا.
وهكذا لا يجتهد أحد في أن يدافع عن العقد الاجتماعي على سبيل الحفاظ على رابطة المواطنة في حدها الأدنى..التي تتيح قدرا من التفاعل بين الناس حول – لن أقول ما يمكن أن ينجزوه معا – بل على الأقل – وهذا أضعف الإيمان - ما يتهددهم معا..لكن لا يفوتني القول أنه وفي هذا السياق – وهنا المفارقة- تتحدث كل الأطراف عن المواطنة !( ولكنه حديث في غير موضعه).
خلاص الفرد في تقديم أفضل ما لديه مع الآخرين..لا في ذاتيته
في مواجهة ما تحمله الهوية الذاتية من فكرة أنها هي القادرة على أن تجلب الخير لمن ينتمي لها،يتراجع الفعل الجماعي العابر للهويات،أو العمل المشترك بين البشر المختلفين. فالهوية الذاتية غير قابلة للنقد أو المعارضة،بالرغم إنها بمجرد ما تدخل في إطار النسبي وفي علاقات مع آخرين لابد من أن تسمح بمساحة للإبداع والتفاعل وهو أمر لا يتأتى إلا بالاكتشاف والنقد والتجريب...قطعا لولا أن الاحتلال الإنجليزي لم يفرق بين مصري وآخر من جهة،وتلاقت الإرادات بين المصريين على اختلاف مرجعيتهم على ضرورة النضال المشترك في مواجهة المحتل..لما عرف أبناء كل هوية أبناء الهوية الأخرى... ومن ثم ولدت رابطة المواطنة في لحظة تاريخية معينة،والتكافؤ الذي حققه الجهد المشترك كان بمثابة العقد الاجتماعي الذي مثل بوابة دخول أهل مصر إلى أن يندمجوا...وهكذا..
بيد أن الحاصل الآن هو أن كل طرف، بما يضم من أفراد، أصبح متوحدا بهويته ومشروعها وما تحمله من أفكار التزاما يرتبط به،ويجعل الفرد الذي ينتمي له مقتنعا – بحسب صاحب المشروع – "بأنه سيجد فيه وضعه الشرعي أو خلاصه من إحباطاته". وفيما تظن الدولة إنها تدير أزمات التوتر بحنكة ومهارة تعيد إنتاج الانفصال وتستعيد تراث الدولة العثمانية – بوعي أو غير وعي – في التعامل مع كل فئة /طائفة على حدة..مكرسة دولة الطوائف على حساب دولة الاندماج(المفارقة هنا أيضا – وما أكثر المفارقات- أن مصر لم تعرف نظام الملل العثماني كما عرف في الشام – راجع أبو سيف يوسف في الأقباط والقومية العربية، ومحمد عفيفي في الأقباط في العصر العثماني.. )..وفي نفس الوقت الذي تقبل فيه غلبة العرفي فإنها تسحب عمليا من رصيد التحديث والحداثة الذي عرفته مصر.
في ظل الاحتقان، - الذي يكاد يكون مستمرا عبر أربعة عقود- نجد كل طرف يتسلح بهويته فهي الملاذ والمخرج والملجأ..لا أحد يدرك أن الذات لا يمكن اختبار مدى جودة ما تحمل من قيم وأفكار إلا بالتعامل مع الآخر..فالذات المكتفية بنفسها هي ذات مهددة وخائفة..وإذا كانت نافية للآخر فإنها عمليا تنفي نفسها في النهاية..وهذا هو قانون الطبيعة...في نفس الوقت لا أحد يدرك أن الأزمة تكمن في الواقع المجتمعي أساسا..وهو الهدف الذي يجب أن نجتهد جميعا في تغييره..الهوية الذاتية تتطور وتكون في أحسن حالاتها وهي منفتحة على الهويات الأخرى في مواجهة الواقع بهدف إحداث التغيير...يكفي قراءة خطاب أي هوية ذاتية لنكتشف كم أضرت الذاتية بأصحابها من حيث اللغة المستخدمة وعدم القدرة على متابعة الجديد ومن ثم طرح ما يفيد التغيير..حتى عندما يدخل إلى الحلبة بعض اللاعبين الجدد نجدهم يطرحون الأمور من أول وجديد..فلا أحد يراكم ولا أحد يستفيد..خذ مصطلح المواطنة وكيف أستبيح ووظف بحسب ما يرى كل طرف..
إننا نحتاج إلى تبني مشروع لتجديد رابطة المواطنة بين المصريين وتحقيق الاندماج في إطار الدولة الوطنية المصرية..بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللون أو الجنس..ولتكن الكفاءة هي المعيار الأول والأخير...