وليم سليمان قلادة...مدرسة الوطنية المصرية

في التاسع من سبتمبر سنة 1999رحل عن عالمنا المفكر والفقيه القانوني والمؤرخ وأول من نظر للمواطنة الدكتور وليم سليمان قلادة. فلقد كان بحسب كل من كتب عنه "مدرسة للوطنية المصرية"،وهو الوصف الذي كرره الكثيرون عن حياته ومشروعه الفكري. عرفته في أغسطس سنة 1980عندما بدأت مشروعا بحثيا حول تاريخ حركة مدارس الأحد من منظور تاريخي اجتماعي،وذهبت لمقابلته من ضمن عشرات قابلتهم في هذا السياق،كان هدف اللقاء إجراء مقابلة مطولة حول الموضوع..ولكن اللقاء صار علاقة ممتدة إلى أن فارق الحياة..كشف لي اللقاء الأول عن شخصية بسيطة لا تتحدث عن نفسها قط..وإنما يجد كل المتعة في الحديث عن فكرة وردت في كتاب فلان أو قصة من التاريخ لها دلالتها،أو أيقونة وماذا تعني،أو يطرح على المستمع بعض من اجتهاداته بتواضع شديد ملتمسا الرأي والتعليق.. كان موسوعي الثقافة.. منشغل بالتاريخ والقانون واللاهوت والفن وعلم الاجتماع ..لم يسع قط لتكوين تابعين حول شخصه..وكان دوما يتقبل تعليقاتنا مهما كانت..وكان يقبل التنوع وأن تكون للآخرين تحيز اتهم.. من هو وليم سليمان قلادة؟

الأقباط وكنيستهم في إطار تاريخ مصر الوطني

يعد الدكتور وليم سليمان قلادة أول من وضع الكنيسة القبطية والأقباط على الخريطة التاريخية والحضارية للمصريين من خلال دراسته الرائدة التي صدرت أولا في مجلة الطليعة في ديسمبر 1966بعنوان "تيارات الفكر المسيحي"،ثم نشرت ككتاب في عام 1967 بعنوان "الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية"،لقد كانت الدراسات التي تتناول الكنيسة أو الأقباط تتناولهما بمعزل عن السياق التاريخي المصري العام. ولكنه استطاع أن يرصد حركة الأقباط والكنيسة في إطار الحركة الوطنية المصرية،الأمر الذي فتح المجال أمام الكثير من الدراسات اللاحقة لكي تنتهج هذا المنهج. وأود التأكيد هنا على أهمية هذا الكتاب، الذي يمر على نشره،في هذا العام،40 عاما،الذي رصد للدور الوطني للأقباط وكنيستهم عبر العصور من جهة،كما رصد للمواجهة التي تمت ضد أحد الكيانات العالمية آنذاك من خلال قراءة الأدبيات الأساسية وتفنيدها وهو ما وثقه الكتاب تفصيلا(يشار إلى ما كتبه أحدهم،مؤخرا، ناسبا لنفسه- فقط - كل الجهد الخاص بهذه المواجهة بالرغم من أن الدكتور وليم قام بالجهد الرئيسي وبخاصة العلمي فيما يتعلق بهذا الجهد).

الحوار بين الأديان

يعتبر وليم سليمان قلادة،أول من كتبوا عن الحوار بين الأديان في كتاب يحمل نفس الاسم(1979)،وفيه تمكن أن يضع قواعد أربع للحوار تمثل بحق اجتهادا نظريا راقيا غير مسبوق ومرجعا أساسيا في هذا المضمار حدد فيه قواعد الحوار كما يلي:
• عن الأخر: فهم الآخر كما يريد هو أن يكون مفهوما.
• عن الشخص: فهم عقيدتي كي أستطيع عرضها للآخر.
• عن المطلق: المتدين يؤمن بأن الله هو المعتني بجميع البشر الذي وضع في البدء صورته فيهم.
• عن الممارسة: أي التحام المبدأ بالواقع، والتزام الموقف الناشئ من الالتحام(فإذا كان المبدأ هو المحبة فلابد أن تتجسد المحبة عمليا من خلال أفعال ملموسة وحية).
وحدد هدفه من هذه القواعد ألا وهو ترسيخ الحياة المشتركة وتعميق العلقة بين مكوني الجماعة الوطنية،فنقطة البداية في الحوار أن ثمة إنسانية مشتركة تجمع الطرفين،فمن أحاوره- مهما يكن جنسه ولونه وانتماؤه الديني- إنسان على صورة الله وخليفة له.

 

حركة الجماعة الوطنية نحو المواطنة

القارئ للمشروع الفكري لوليم سليمان قلادة، سوف يجد أن الكلمة المفتاح لهذا المشروع هي"حركة الجماعة المصرية"،حيث أخذ يدرس بداياتها ومسارها التاريخي وطبيعة العلاقة بين مكوناتها ونضال هذه الجماعة في الحصول على حقوقها. لقد أعتبر في دراسته للجماعة الوطنية في إطار الحركة، "ظاهرة إنسانية فذة"، حيث استطاعت أن تعبر مئات السنين من المعاناة المتنوعة التي تفكك أوصال التكامل الشخصي والاجتماعي، وتخرج الجماعة من المعاناة دوما بدرجة من الوحدة والاندماج،وكان يتم ذلك من خلال الحركة التي تعني لديه المواطنة التي تعكس على أرض الواقع :المساواة والمشاركة،المساواة بين المصريين لإقامة العدل واختراق حاجز الحكم إنه "فقه المحكومين" الذي أخذ يتبلور في مواجهة " فقه الحكام" الذي يعني الظلم والسلطة المطلقة، وما مسيرة الجماعة المصرية إلا مسيرة الحركة من قبل المحكومين مقابل الحكام،إنه النضال من أجل بلوغ "فقه المواطنة":المساواة والمشاركة.وكان حريصا على التأكيد بأن المحكومين على اختلافهم لم تكن تفرق بينهم المعاناة المشتركة. لقد ساهم هذا الجهد التأسيسي في أن يفتح أفقا لنا بعد ذلك لنواصل الجهد والتطوير للمواطنة .
في سياق جهده الفكري حول المواطنة تجدر الإشارة إلى أنه أول من استخدم تعبير "مبدأ المواطنة"،في كتابه الحوار بين الأديان 1979،كما حمل كتابه الأخير اسم "مبدأ المواطنة"وقد صدر في ذكرى الاحتفال بعيد ميلاده الماسي(قبل شهر من رحيله) الذي أقامته وحدة المواطنة بالمركز القبطي للدراسات الاجتماعية.(وقد استخدم أيضا الأستاذ طارق البشري هذا التعبير في كتابه العمدة المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية).

حمل الوطن داخله من البداية إلى النهاية

تعلم وليم سليمان قلادة من والده أن هموم مصر هي همومه..وأن كل عمل يعمله لابد وأن يتم بكل أمانة وإتقان.. لذا نجده وقد أنجز في المجال المهني، حيث كانت له بصمة، بداية من رسالته غير المسبوقة وعنوانها"التعبير عن الإرادة في القانون المدني المصري:دراسة مقارنة"(1954)،وعين بمجلس الدولة عندما أعيد تشكيل المجلس في عام 1955،وعمل فيما يعرف بدعاوى "العقود الإدارية" وساهم في التأسيس لهذا المجال. ومرورا بأعماله الفكرية التي كانت تعد أعمالا تأسيسية:الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية1067،الحوار بين الأديان 1979،المسيحية والإسلام في مصر 1987،مبدأ المواطنة1999،ودراساته المهمة عن تاريخ مجلس الدولة،والقانون المدني المصري..ولا يجب أن ننسى العمل الذي أخذ منه 20 عاما – نعم 20 عاما- ألا وهو الدسقولية وتعني تعاليم الرسل وقوانين الكنيسة حيث جاء بالمخطوطة وحققها في 500صفحة وكتب تعليق حولها في 300 صفحة.
لقد كانت للراحل الكريم الكثير من المواقف الوطنية المبدئية التي شارك فيها منذ الستينيات ولم يكن يعنى بأن يكون في دائرة الضوء، فالمهم الصالح العام. فقط أذكر بموقفه من مؤتمر الأقليات ودوره الأساسي في مواجهة أعمال المؤتمر(وكان لي الشرف أن أشاركه الجهد الذي حاول البعض أن ينسبه لنفسه وقد رويت جانبا من تفاصيل هذا الجهد في كتابنا الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط)،مدافعا باستماتة ألا تناقش مشاكل الأقباط في إطار مشاكل أقليات المنطقة وتحت مظلة الأمم المتحدة وإنما في إطار الجماعة الوطنية. لقد عاش وليم سليمان قلادة من أجل هذا الوطن يخدمه دون أن ينتظر المقابل، كان كبيرا بعلمه وفكره وسلوكه..وكان متواضعا وزاهدا زهدا حقيقيا في متع الدنيا..حياته كلها كانت ملكا للعلم والمعرفة،ولتكوين أسرة ملتزمة،ولكل من يقصده من أجل نصح ومشورة،وللوطن الذي عاش فيه ومن أجله..ظل إلى اليوم الأخير من حياته يعمل من أجل الوطن..يشارك في اللقاءات العامة ويكتب..كان يحاول جاهدا أن ينهي كتابه الأخير ولكنه لم يتمكن رغم أنه كان يحمله معه في كل مكان حيث يستطيع متى وجد بعض الوقت أن يخرج الأوراق والقلم الرصاص، رفيق الدرب،ليعمل في هذا العمل الذي راجع فقط 3 فصول منه من إجمالي 12فصلا لم تتح له الفرصة أن ينتهي منها أو أن يضع له المراجع،الأمر الذي احتاج من الذين أخذوا على عاتقهم نشر هذا العمل عدد من السنوات لإتمامه بالصورة اللائقة...رحم الله الدكتور وليم سليمان قلادة:مدرسة الوطنية المصرية.

إضاءة:

* قالوا عن وليم سليمان قلادة:
كان يشكل تعبيرا عن واحدة من ركائز الفكر السياسي الذي تقوم عليه الجماعة الوطنية المصرية.ووليم في حياته الفكرية ونشاطه العام،إلا خادما بإخلاص وفي نسك لجماعته القبطية الخاصة،وجماعته المصرية الوطنية العامة..
طارق البشري
• ..لقد فتح صفحة نيرة وطريقا مضيئا للمواطنة فكرا وعملا على أرض وفي قلب مصر.
أنور عبد الملك
• وفيما يتعلق بروح مصر العميقة، فإن الدكتور وليم كان واحدا من أولئك الذين أدركوا سرها وعناصر حيويتها واستمرارها..الشخصية التي تتداعى إلى ذهني عند تذكره:حكيم مصري متشح مرة برداء كاهن مصري في معبد أبيدوس..أو راهب قبطي في قلاية داخل دير على تخوم الصحراء،أو شيخ مهيب يؤم المصلين..كان الدكتور وليم أو العم وليم كما كنت أناديه واحدا من حكماء الأمة وعقلائها، وكان أخا كبيرا أتنفس به، وأهتدي برأيه وقت الشدائد وأطلب منه النصيحة عند الحيرة..
جمال الغيطاني
• كان مدرسة كنسية..ومدرسة قانونية..ومدرسة وطنية..
الأنبا موسى
• ..سيبقى دوما قائما وشامخا في وجدان الوطن..
رفعت السعيد
• ..قدم للحياة العامة نموذجا فريدا، ندر أن يكون له مثال..على مستوى العمل العام،كان متفردا..ظل الرجل مستقلا يعمل في دأب الرهبان والمتصوفة على انجاز عمله كرجل قانون وقضاء ومؤرخ ومفكر وطني دون سعي لمنصب..يؤدي ما يعتقد أنه الصالح العام..ما يمثل لديه مدرسة الوطنية المصرية أو فلنقل مدرسة الصالح العام الوطني..والنزاهة.
نبيل عبد الفتاح
* أهدى كتابه الأول الرائد الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية(1967)إلى أبيه (الذي كان وفديا ونقل إلى أقاصي الصعيد عندما حكم حزب من أحزاب الأقلية مرة) حيث كتب ما يلي:
إلى أبي...
إنسانا طيبا يعيش من عمل أيديه
كانت هموم مصر هي همومه الشخصية
وشارك وسط الجماهير الثائرة في النضال الوطني
وقدم مع الملايين التضحيات اليومية التي صنعت لهذا الوطن اسمه في التاريخ
وأثناء هذا كله كان شماسا في الكنيسة القبطية.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern