التمكين يعني التغيير لا التسكين

شهدت مصر ندوة هامة بعنوان "التمكين القانوني للفقراء"،قامت بتغطيتها جريدة الوفد منذ عشرة أيام،وتصادف أيضا أن خصص الدكتور عبد المنعم سعيد مقاليه بجريدة الأهرام عن موضوع التمكين..وأتصور أنه موضوع يستحق المزيد من الحديث والاهتمام به في دولة تعاني من كثير من المشاكل وعلى رأسها الفقر الذي يعاني منه ما لا يقل عن 20 مليون مواطنا من سكان المحروسة...

في معنى التمكين

مصطلح التمكين من المصطلحات التي عرفت في إطار الاهتمام بتنمية المجتمعات الفقيرة ومحاولة علاج مشاكل المهمشين والمستبعدين من المجتمع. وللتيسير على القارئ الكريم نقول أن العملية التنموية قد مرت بعدة مراحل، ولعل المثل الصيني القائل:بدلا من إطعام الفقير سمكة علمه كيف يصطادها..، و الذي شاع للتدليل على جدوى التنمية يساعد في ما نود أن نشرحه وذلك كما يلي:
• في البدء كان الاهتمام بإطعام الفقراء السمك، ما يعني تقديم حلول خيرية خدمية لا تعين الفقراء على أن ينهضوا بأنفسهم،فهناك من يعينهم..الأمر الذي يعني بقاء الأمر الواقع على ما هو عليه.بالإضافة إلى احتمالية عدم استمرار المعونة أو انتظامها.
• تطور الأمر بعد ذلك إلى ضرورة أن يقوم المعنيون بالعملية التنموية بتعليم الفقراء و المهمشين كيفية الصيد(توفير المهارات اللازمة والموارد المطلوبة) الأمر الذي يضمن لهم التطور والاعتماد على النفس.بيد أنه مع الخبرة أكتشف أن تعلم الصيد ليس كافيا خاصة وأن هؤلاء الفقراء سوف يتحركون في سياق اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي قد تتعارض فيه المصالح،ولا تتاح لهم فرصة أن يكون لهم مكان في البناء الاجتماعي وخاصة أن تعلم الصيد لا يعني تحررهم من الفقر والتهميش والاستبعاد..وحدث انقلاب جذري في مفاهيم التنمية وبخاصة فيما يتعلق بمفهوم التمكين..كيف؟
في عام 1975،أعلنت مؤسسة داج همرشولد السويدية من خلال نبذة تم تعميمها دوليا تحت عنوان:"تنمية أخرى"Another Development عنيت بالأساس بضرورة أن تتسم التنمية التي تتم للفقراء بالاستدامة والاستمرارية وهذا لا يتم إلا بأن يعرف الفقراء كيف يصنعون السنارة،وكيف يدركون الخريطة الاجتماعية التي يعيشون في سياقها،وأن من حقهم أن يكون لهم دور،وأن يكون لهم مكان في البناء الاجتماعي. وفي العام التالي أطلقت IFDAالمؤسسة الدولية للتنمية البديلة ما أسمته "النظام الثالث" Third Systemحيث لفتت النظر للمرة الأولى إلى أهمية التمكين بالنسبة للفقراء المهمشين بعيدا عن سطوة السوق والدولة.أي بدون التنمية النمطية للدولة أو التنمية بحسب معايير السوق،حيث كلاهما يكون لديهما تصور مسبق لتنمية الفقراء أو ما يمكن تسميته "التنمية سابقة التجهيز"،من خلال ما أطلقت عليه مرة أثناء عملنا بالتنمية"بؤجة التنمية". وللأسف لم تزل كثير من مشروعات التنمية المحلية تمارس بحسب ما يرى من يدير العملية التنموية أو بحسب رؤية المانحين سواء أجانب أو من رجال الأعمال.. وليس بحسب الاحتياج الفعلي للفقراء وبما يضمن التمكين الفعلي لهم و الذي يعني:
• حق الفقراء والضعفاء في أن يكون لهم موقع في البناء الاجتماعي،والثقة بأن كل إنسان لديه طاقات كامنة مستعدة للانطلاق متى أتيحت له الفرصة..لذا فتوفير الفرص المتاحة والمساواة بينهم وبين الأقوياء والأغنياء أحد أهم مؤشرات التمكين..من أجل امتلاك أمورهم ومصائرهم، ومواجهة سلطة القهر والتمييز، وإثارة الوعي بمدى خطورة أوضاعهم ولماذا،وإعلاء الجانب الإنساني في التعامل معهم على اعتبار التنمية عملية إنسانية بالأساس وليست ميكانيكية..وأن الفقر ليس قدرا وإنما له أسبابه التي يجب العمل على إزالتها.. وتكون لديهم القدرة على الاعتماد على الذات وتحديد ما يصلح لهم.ومن ثم إعادة الاندماج في المجتمع .(يراجع Empowerment ,1992 لجون فريدمان - كذلكPeople's Self Development,1993).

التمكين عملية مجتمعية شاملة

في ضوء ما سبق، يمكن القول أن إحداث تمكين حقيقي لابد وأن يتجاوز البرامج الخيرية،والعلاجات التسكينية،وما شابه ذلك، إلى إدراك إنها عملية مجتمعية Societalشاملة.وتجدر الإشارة إلى كتاب صادر مؤخرا بعنوان:"سياسات الاندماج والتمكين"من منظور المواطنة( (The Politics of Inclusion and Empowerment يؤكد على أنه لا يمكن إحداث التمكين بدون الأخذ في الاعتبار الجانب المجتمعي،أو بلغة أخرى التمكين لا يتم بمعزل عن السياق المجتمعي..فعلاج الفقر والتهميش لا يكون بالنوايا الحسنة،أو الهبات والمعونات،أو بإجراءات إدارية..وإنما بفهم الأسباب الهيكلية التي أدت إلى التهميش والاستبعاد الاجتماعي.وفي هذا المقام نجد الكتاب يشير إلى خبرة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع المجتمعات المهمشة في السياق الأوروبي ـ يلاحظ السياق الأوروبي..فماذا عن الحال في السياق العالمثالثي ــ،حيث يقول الكتاب إلى أن الاستبعاد الاجتماعي Social Exclusion هو نتيجة إلى خلل في المنظومة الاقتصادية/ الاجتماعية. وانه بسبب سياسات السوق حدث( وهي فكرة تعد هامة جدا ينبغي الالتفات إليها) خللا مزدوجا في البنية الاجتماعية على المستويين الأفقي والرأسي وذلك كما يلي:
• أفقيا:هيمنة سلطوية( قد تكون فئوية،سياسية،جيليه،جنسية،إثنية،دينية)
• رأسيا:هيمنة طبقية.
الأمر الذي ينتج اللامساواة والتهميش والاعتمادية والتواكل والركون إلى الخرافة وإلى أنماط من الممارسات التي تتداخل فيها العادات والمعتقدات السلبية المقاومة لكل تغيير والرافضة لكل تمكين..والمفارقة أن تتولد في المجتمعات المهمشة نتيجة الخلل الاجتماعي اللامساواة الأفقية والرأسية تعريف للتمكين يأخذ دلالة عقدية لا اجتماعية تعيد إنتاج التهميش..ففي إطار دفاع المجتمعات المهمشة عن نفسها يصبح التمكين لديها هو تهميش ونفي من يقوم بتهميشهم..مع بقاء حالهم على ماهو عليه..إنها دائرة خبيثة ولاشك..ألا يوجد حل؟

ما العمل؟

لابد من إعادة النظر في كثير من المفاهيم السائدة التي تتعامل مع الفقراء و المهمشين..فإذا كانت هناك مراجعات مبكرة(منذ السبعينيات) حول نظام السوق في قدرته على تمكين الفقراء، وأكد ذلك مؤخرا ممثل البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في الندوة المشار إليها في بداية المقال "أن الدراسات أثبتت أن اقتصاديات السوق لم تنصف الفقراء.."وأن "الفقر زاد بسبب سياسات غير ملائمة". هذا بالإضافة إلى تنفيذ مشروعات نمطية لا تناسب البيئة وقد رأيت أثناء تقييمنا لبعض المشروعات في الريف كيف يتم تصميم مشروعات تكون عامل طرد لأبناء القرية،أو محاكاة مشروعات تكون قد نجحت في مكان بعينه ولكنها ليست بالضرورة تصلح لأماكن أخرى،حيث يصبح الأمر موضة أكثر منه احتياج موضوعي..كما تجدر الإشارة إلى عدم الأخذ بمنهج دراسة موازين القوى في السياق الذي يعيش فيه الفقراء المطلوب تمكينهم..واحتمالية وجود مصالح تعارض تمكين هؤلاء الفقراء لتحسين أحوالهم أو المطالبة بحقوقهم (عمالة الأطفال في المجال الزراعي مثلا).

التمكين يحتاج إلى مشروع متكامل بين جميع أطراف المجتمع في إطار تحليل موضوعي لكل أنماط اللامساواة الاجتماعية،والخلل الاجتماعي،والأشكال الجديدة من الانقسامات الاجتماعية التي تؤدي إلى الاستبعاد والتهميش الاجتماعي،ووضع سياسات اجتماعية تقوم على وعي المهمشين بحقوقهم والمشاركة في صياغة واقعهم وربما في صياغة واقع جديد إنتاجي الطابع..لذا التمكين تغيير لا تسكين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:

* وأنت ماذا تعملين؟.. * كما رأيت أشتغل بالدولارات،وأقرأ الكف والفنجان..
* كنت تبيعين الزهور.
* صارت بضاعة كاسدة،الناس الآن لا تهتم بزهور الحياة التي تمسكها بيدها،تنشغل أكثر بالغيب الذي لا تعلمه،تريد أن تطمئن على مستقبلها،حال الدنيا مقلق،والناس لا يعرفون ماذا يريدون منها.
محمد ناجي
مقطع من رواية الأفندي


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern