فيروس التفكيك

يوم الخميس الماضي تناقلت وكالات الأنباء إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية 75عضوا(من أصل 100) على مشروع قرار – غير ملزم للإدارة الأمريكية - تقدم به السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن ينص على:تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات/كيانات /أقاليم فيدرالية،شيعية وسنية وكردية،على أن تبقى بغداد عاصمة فيدرالية تتولى إدارة الأمور الأمنية والثروة ..ما هي ملابسات هذا التصويت وخطورته.. وإمكانية تحققه..

موافقة مجلس الشيوخ:التشريع في منتصف الطريق

للإجابة عن ما سبق ربما يكون من المفيد – بداية- إلقاء الضوء على ماكينة التشريع الأمريكية، حيث تقوم العملية التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية على أن الكونجرس هو الهيئة أو الجمعية التشريعية المنوط بها إصدار التشريعات المتنوعة..ويتكون الكونجرس من مجلسين هما : مجلس النواب،و مجلس الشيوخ..وتعرف الجهة التشريعية أربعة أنواع من التشريعات تسمى مشروعات القوانين والقرارات، وذلك كما يلي:
• مشروعات القوانين.
• مشروعات القرارات المشتركة.
• مشروعات القرارات المتفق عليها من أكثر من جهة.
• مشروعات القرارات البسيطة.
ويتيح النظام التشريعي الأمريكي أن يتقدم أي عضو من أعضاء الكونجرس بمجلسيه أو السلطة التنفيذية التقدم بمشروع قانون أو قرار إلى الكونجرس،كما يستطيع الأفراد وجماعات المصالح المختلفة مثل الجمعيات والاتحادات العمالية والغرف التجارية إرسال مقترحاتهم إلى أحد أعضاء الكونجرس للتقدم بها. وبعد دخول المقترح في آلية طويلة من خلال جلسات استماع ولجان مختصة يتم التصويت على قبوله من عدمه.وعليه يرفع المشروع بعد ذلك إلى الكونجرس في صيغة مشروع قرار يتضمن:الهدف وتحليلا تفصيليا له..وعندما ينتهي أي من المجلسين في الكونجرس من نظر تشريع معين يحال إلى المجلس الآخر لنظره، فإذا أقره المجلسان بأغلبية الحاضرين أحيل التشريع إلى الرئيس للتصديق عليه.وإذا لم يوافق الرئيس على التصديق فانه يعاد إلى المجلس الذي بدأ فيه اقتراح التشريع..وعند إعادة نظر الموضوع فإن موافقة كل من المجلسين بأغلبية الثلثين تجعل اعتراض الرئيس كأنه لم يكن ويصبح التشريع قانونا واجب التنفيذ.(لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتابنا الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط).
لقد قصدنا أن نلقي الضوء على العملية التشريعية الأمريكية،لأن رد الفعل العربي ركز على أن التشريع المقترح غير ملزم للإدارة الأمريكية وكأنها هي التي بيدها الحل والربط قياسا على الأنظمة العربية،ولم يتم تفسير أن موافقة مجلس الشيوخ بأغلبية 75 عضوا،إنما تعني أنه تم قطع منتصف الطريق نحو إقرار مشروع القرار،وانه لم يكن يصل إلى هذه المرحلة ما لم يكن يحظى بدعم كبير...كيف؟

القرار/ المشروع المقترح يحظى بتأييد متعدد

بداية لابد من الإشارة إلى الثقل المتزايد للسلطة التشريعية،بسبب القوى الاقتصادية المنتظمة فيما يعرف بجماعات المصالح،أو بالكتل التصويتية المتنوعة والتي يمكن أن نطلق عليها جماعات الضغط في التأثير على العملية التشريعية.أن هذه الجماعات لها مصالح حيوية متشابكة مع أعضاء الكونجرس،على الرغم من وجود حزبين كبيرين،إلى أن هناك آليات توازنية/توافقية تعمل على التنسيق بينهما خاصة في قضايا وموضوعات تتجاوز المصلحة الحزبية المباشرة حتى وأن بدت متعارضة مع مصلحة السلطة التنفيذية وعلى قمتها مؤسسة الرئاسة،ولكنها تتفق ومصالح القوى الضاغطة في المجتمع.
لذا يمكن القول أن هذا المشروع /القرار يحظى بتأييد متعدد المستويات، فلمن لا يعرف، نرصد من خلال متابعتنا للشأن الأمريكي ما يلي:
• قام السيناتور بايدن بتهيئة الرأي العام الأمريكي لهذا المقترح من خلال مقال نشره في جريدة النيويورك تايمز صيف 2006.
• وكما أن السياسة الخارجية الأمريكية في خططها لتفكيك الإرهاب الأخضر تستعيد ما مارسته مع الإتحاد السوفييتي لتفكيكه،فان السيناتور بايدن يستلهم نموذج ما جرى في البوسنة سنة 1995 للتطبيق على العراق.
• منذ أن أطلق السيناتور بايدن مقترحه من خلال الإعلام حظي بتأييد من لوبي النفط الذي يدعم التقسيم،كذلك اللوبي اليهودي،واللوبي الديني.
• أيد القرار في مجلس الشيوخ كل من الديمقراطيين والجمهوريين عل حد سواء،وهو ما يدحض التمنيات الساذجة التي تتكرر مع اقتراب كل انتخابات رئاسية،بأن تغيير الإدارة يحمل تغيرا في السياسة،أو أن حصول الديمقراطيين على الأغلبية في الكونجرس سيغير من الواقع شيئا. فلقد اتفق الجمهوريون مثل سنونو ولوجار مع الديمقراطيين مثل هيلاري كلينتون وأوباما في تأييد القرار.
• ولا يخفى على المراقبين الذين أطلعوا على نص المشروع /القرار الإغراء بتوزيع الثروة على الأقاليم وبين ضمان الحق في استغلال احتياطي النفط العراقي في صورة احتكارية وذلك بموجب نظام يعرف باتفاقات تقاسم الإنتاج والتي ستكون بين أقاليم وبين شركات نفطية.
• انتشار فكرة التقسيم في كثير من الأدبيات التي تنتجها المراكز البحثية القريبة من مركز صنع القرار مثل راند وبروكينجز ومعهد واشنطن..حيث بدأت تروج لفكرة التجزئة والتقسيم،بل أكثر من ذلك فان التقسيم بات واجبا لتصحيح الخلل التاريخي الذي هندسته بريطانيا.

ما العمل؟

لا أدري لماذا اشعر عند كتابة هذا المقال بنفس الشعور الذي انتابني عندما نشرت كتابي الحماية والعقاب والذي تناولت فيه علاقة الغرب بالمسألة الدينية في الشرق الأوسط،حيث طرحت فيه ما أسميته بآلية الإلحاق /التجزئة التي تمت منذ الدولة العثمانية عبر رصد لخمس مراحل مرت بها بلدان المنطقة إلى الآن،وكان ذروتها صدور القانون الأمريكي للحرية الدينية،هذا القانون الذي صدر في أمريكا ليكون مجال تطبيقه العالم. شعور بالحماس بعد أن استغرقت في إعداده ما يقرب من أربع سنوات درسنا فيه الخلفية التاريخية للموضوع وأصلنا لمفهوم الشرق الأوسط والبيئة التشريعية لأمريكا ودراسة أولى للكتلة الدينية الضاغطة في أمريكا..بيد أن الأمور سارت ضد ما كنا نطالب به في الداخل بضرورة الانعتاق/الوحدة إلى المزيد من التجزئة والإلحاق،فقط انتفض البعض الأيام الماضية ضد تقرير الحرية الدينية الدوري وهم لا يعرفون أي خلفية عنه كما شرحنا في مقال الأسبوع الماضي،وتدعم أكثر وأكثر لدينا الإحساس بأننا جماعات دينية ومذهبية كما يتضمن التقرير...واستغراقنا في معارك صغيرة..وفشلنا في حل كثير من الإشكاليات.
خوفي أن مشروع القرار الخاص بالعراق سوف يسير في نفس المسار الذي مر في فيه قانون الحرية الدينية، ونجده وقد سار واقعا، قد يواكبه أو يلحق به لبنان والسودان...
لا مفر من العمل الجماعي أنظمة ومجتمع مدني في سرعة إيجاد آليات وطنية تعمل عل حل المشاكل وتبتكر الوسائل الخاصة بالاندماج الوطني والتكامل القومي المانعة والمقاومة...أم أن فيروس التفكيك قد سرى ولم يعد لدينا المناعة الكافية لإيقافه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:

* أذكر بما قاله برنارد لويس(وأشرنا إليه في مقال بالوفد في يونيو الماضي) في مؤتمر هرتز يليا الإسرائيلي في مطلع يناير الماضي..بان الدولة الوطنية انتهت وحقبة الصدام المذهبي قد بدأت...ألا يمكن العمل على مقاومة هذه المقولة.
* لا أعرف لماذا تذكرت الصورة التي تم توزيعها من خلال وكالات الأنباء لزعماء قمة أمريكا الجنوبية في ديسمبر 2006 وهم مجتمعون في بوليفيا وكل رئيس حمل آنية من الفخار حيث يقوم بكسرها بحسب التقليد البوليفي المعروف باسم "تشالا"ويعني التمني بمزيد من الخير لدولهم...في إطار التكامل القاري ومقاومة ما يهددهم ويعوق تقدم شعوبهم.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern