* تحدثنا منذ أسبوعين عن فيروس التفكيك الذي بدأ يسري في جسم المنطقة، وبدأ تأثيره يأتي ثماره في العراق، والسودان، ولبنان...ويقيني أن ما يحدث من حولنا هو أخطر ما تتعرض له المنطقة في تاريخها الحديث والمعاصر لأنه يعود بنا ليس إلى المربع رقم واحد، ولكن لما قبل ذلك كثيرا...خاصة إذا ما وضعنا التوجهات الأمريكية التي تؤكد على نهاية الدولة الوطنية وبداية حقبة الصدام المذهبي..حيث لا سبيل لتطور المنطقة ما لم تدخل في صراعات
مذهبية على النمط الذي اختبرته أوروبا تاريخيا..وموافقة مجلس الشيوخ على تقسيم العراق (ويعد هذا نصف الطريق لجعل هذه الموافقة حقيقة).. ولكن لماذا وصلنا إلى هذا الحد؟
السيادة الوطنية العاجزة
* يقول الباحث الفرنسي برتران بادي،أنه مع اختفاء حائط برلين برز ما يمكن تسميته "الدولة المنهارة"،وهو تعبير طبقه على كثير من الدول التي مزقتها الحروب الأهلية،ومن ثم واكب ذلك انفجار داخلي لهياكل السلطة وللشرعية،الأمر الذي تنهار أو تعجز معه السيادة الوطنية للدولة عن ممارسة مهامها. كما يرصد أصبح للجماعة الدولية حق الإعلان عن مدى انهيار هذه الدولة أو تلك –يمكن أخذ الحالة الصومالية نموذجا منذ مطلع التسعينيات-، من حيث توقيت الإعلان عن الوضع في الصومال وآلية التدخل..فالقاعدة التي تم تكريسها هو نقل وظيفة الدولة من الجماعة السياسية الوطنية إلى الجماعة الدولية. لقد منحت - في واقع الأمر – الجماعة الدولية نفسها أن تعلن عن فكرة الدولة المنهارة،وبالتالي تصبح بالتفويض السلطة العليا المؤهلة لتقرير السيادة في الوقت المناسب وبالآلية المناسبة. الإشكالية أن الأمر تطور بعد ذلك،خاصة بعد أن تركت أوروبا أمريكا تتدخل في كوسوفو،وبات هذا التدخل أنموذجا يمكن استعادته في أماكن أخرى(السيناتور بايدن صاحب مشروع تقسيم العراق متأثر بما تحقق في كوسوفو ويعده مثالا )،وترسخت القاعدة أكثر بعد واقعة 11/9، حيث تنازلت الجماعة الدولية بما كانت تقوم به للدول الكبرى.. ويشار هنا إلى أن أوروبا تمارس ذلك أيضا.. ماهي آليات التدخل؟
التحلل القومي
* بالإضافة إلى التدخل العسكري،نجد الدولة المنهارة تبحث لدى المنظمات غير الحكومية ما يمكن أن يعينها في تقديم ما كان على الدولة أن تقدمه من جهة،كذلك تستسلم للشركات العابرة للقوميات خاصة إذا كانت لديها ثروات طبيعية،فتتشكل التحالفات بين الدول والشركات وفقا لقواعد لم تعد تفرق بين المصالح العامة والخاصة،لان الدولة في هذه الحالة لا تعد دولة بالمعنى المتعارف عليه..وإذا كانت هذه الدول تتسم بالأقليات المتعددة تنشط الشركات في تأسيس التحالفات مع هذه الأقليات،وكما أشرنا في مقال سابق،تعقد العقود التي تكون بمثابة إصباغ الشرعية على هذه الأقليات..وهكذا متى تبلورت ارتباطات عابرة للحدود بين الأقليات والشركات فإن هذا يعني بالضرورة بدء ما يمكن تسميته "التحلل القومي" للدولة الوطنية.
حيث يتم إنعاش الهويات/الخصوصيات السابقة للقومية"بالعقود الاقتصادية ،..و بسبب عدم اليقين المحيط بمفهوم المواطنة وعدم نجاح الدولة في توفير آليات اندماجية لمكوناتها في إطار الدولة الوطنية.. وفشل التكافلات الأفقية – تكافلات المصالح المادية لمختلف الفئات الاجتماعية مثل الأحزاب و النقابات و الروابط –على بناء جماعة سياسية قومية، ذات هوية واحدة هي هوية الدولة الوطنية.. الأمر الذي يؤذي هذه الدولة فتصبح دولا، و ذلك بالعودة إلى الخصوصيات الصغيرة, و التمرد على جميع أشكال الاندماج.وعليه ماذا ستكون النتيجة المتوقعة؟
الذاتي قبل الوطني
* بفعل دخول الذاتيات القومية والدينية في علاقات وروابط عابرة للحدود..كبديل عن الروابط مع باقي مكونات الجماعة،خاصة وأن العولمة بما تعنيه من نظام اقتصادي وتدفقات مالية لها قوانينها الخاصة فان هذه الذاتيات والخصوصيات Particular National Content تجد نفسها في الدولة العالمية Universal State، و هو ما يؤثر على درجة الاندماج الاجتماعي و ربما يدفع في اتجاه تشكيل أنظمة اجتماعية مستقلة عن المنظومة الاجتماعية العامة و هو ما يمثل تحديا كبيرا للدولة الوطنية. ويعلى من الانتماء الأولي، ويتم دحض العقد الاجتماعي الذي كان يربط بين مكونات الدولة، وإضفاء صفة القداسة على الذاتي ونفي الآخر باسم الدين والمذهب، أو اللغة، أو العرق، وفض أي علاقة برابطة المواطنة.
* إن الإشكالية التي نحن بصددها هو أن المنطقة تتعرض لخطر حقيقي يحتاج إلى تعامل غير تقليدي يتجاوز الشجب والتنديد والنداءات..تعامل يتفهم المستجدات على المسرح الدولي والآليات المستخدمة..وابتكار آليات دمج وطنية تحول دون التحلل القومي للدولة الوطنية..ومحاولة تجاوز الاستغراق في القضايا الوهمية غير الحقيقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:
• "بيئة شرق أوسطية كونفدرالية مواتية للدولة اليهودية"
مقال في يديعوت أحرونوت
20/9/2007