فى يناير 2007، لفت نظرى تغطية خبرية نشرتها إحدى الصحف الأمريكية حول مؤتمر عقد فى إسرائيل، وتحديدا فى هرتزليا، لمناقشة مستقبل المنطقة. وأن برنارد لويس ـ إمام المستشرقين (1916) هو ضيف شرف اللقاء. وأهم ما جاء فى الخبر هو أن لويس فى كلمته المرتجلة، التى استغرقت أقل من ثلث ساعة، قد شدد على فكرة جوهرية مفادها هو ضرورة «نهاية الدولة الوطنية (النابليونية) والبدء فى إطلاق حقبة الانقسام المذهبى فى المنطقة العربية».. أثارت كلمات برنارد لويس الكثير والكثير لدى، خاصة أننى أعرف كتابات لويس جيدا وأهميتها فى تشكيل استراتيجيات المنطقة. وكان لى فرصة ترجمة نصه الأول الذى نشر فى فورين أفيرز ـ 1997، المعنون: «الغرب والشرق الأوسط»،
(1)
«…رغم كل الأطوار وتقلبات الأحوال وإعادة التنظيم وحلول أشخاص رئيسيين أو ثانويين مكان آخرين، إلا أن التكوين كله استمر مصدرا للقوة والمتانة، وبث التأثير. ورغم ضيق بعض الجهات الأخرى إلا أن ثمة وعيا شاملا لا يمكن تحديد مصدره أو منبته يرسى حقيقة يعيها الجميع أنهم فى حاجة إلى حضور هذا الكيان الراسخ، المشع، الحائز على الثقة، إن مثوله هكذا يضفى قوة على تكوينات أقل شأنا مع أنها اعتق والزم!»… بهذه العبارات المكثفة العميقة والعالمة، لخص جمال الغيطانى أهمية «الكيان البيروقراطى» المصرى. الكيان الذى وصفه «بالمؤسسة» فى روايتيه: «حكايات المؤسسة»، و«حكايات الخبيئة»، (2002)، على التوالى…
وهو وصف جديد ينضم إلى مجموعة الأوصاف التى ذكرناها فى دراستنا الممتدة على مدى 10 حلقات حتى الآن فى محاولة لكشف شفرات البيروقراطية المصرية و«تحولاتها/تحوراتها» أو: «الميرى»، أو «الأداة الحكومية» أو «الجهاز الإدارى»، أو «الجهاز العتيق»، أو «التنظيم الإدارى»، أو جهاز الخدمة المدنية،…، إلخ. فلقد مرت بالبيروقراطية المصرية أنظمة سياسية متعاقبة/ متنوعة كما يلى: وطنية (المصرية القديمة/الفرعونية)، ووافدة مستعمرة (من البطالمة والرومان إلى العثمانيين). ووافدة انحازت لإبقاء مسافة من الباب العالى:«مشروع محمد على»، فالاحتلال البريطانى. وأخيرا مرحلة الاستقلال الوطنى.
(2)
واستمرت «المؤسسة/الجهاز البيروقراطى»، ونقتطف مرة أخرة من الغيطانى قوله: «…رغم من كل الهنات والوعورات، وبدا الموضوع متصلا بجوهر خاص نجح المؤسس فى إرسائه وتقوية دعائمه، بحيث تظل المنشأة قادرة على البث، مشعة، حتى فى أوقات الشدة التى تمر بها، وترسخت قناعة عند الكافة أنها لو تعرضت للتصفية فستظل موجودة بشكل ما، بهيئة ما، وسيظل من يحرص على التعلق بها والسعى بها هنا وهناك»… فبالرغم من التعاقب المتنوع للأنظمة السياسية الوطنية والوافدة والمستقلة والمستعمرة، إلا أن البيروقراطية المصرية ظلت مؤسسة حاضرة تؤدى دورها التاريخى من جانب فى ضبط النهر وممارسة الإدارة المركزية للبلاد. ومن جانب آخر «التخديم» على أنظمة الحكم المتعاقبة باقتصاداتها المختلفة وحصار المواطن بشتى الطرق… إلى أن تحولت تحولها الكبير مطلع السبعينيات فصارت شريكة للقوى الاجتماعية الريعية الطفيلية. وهى لحظة تاريخية شهدت تراجعا فى التصنيع وتفكيك القطاع العام إلى آخر ما فصلناه فى مقالينا الأخيرين…والسؤال الذى يفرض نفسه هنا ما عمق أزمة البيروقراطية المصرية الراهنة؟
(3)
هذا السؤال فى واقع الأمر، يختصر طرح الكثير من الأسئلة والتى منها: أولا: ما هى بالضبط طبيعة العلاقة بين البيروقراطية ورأس المال الجارى: الداخلى والخارجى؟. ثانيا: هل كل عناصر الجهاز البيروقراطى يمكن أن نتعامل معها باعتبارها لونا واحدا متماثلا فى مصالحه واختياراته؟ ثالثا: هل يمكن تطوير الجهاز الإدارى بمعزل عن إحداث تغييرات فى البنية الاقتصادية القائمة وتوجهاتها وسياساتها؟ رابعا: وهل يمكن تطوير الجهاز الإدارى بمعزل عن فهم ما طرأ عليه من تحولات وعلاقات متشابكة مع باقى القوى الاجتماعية التى تمثل للسلطة القائمة؟ خامسا: وهل كاف أن تصدر تشريعات ذات طابع إجرائى ـ تنظيمى محض لتطوير الجهاز الإدارى التليد؟ سادسا: هل يمكن الاكتفاء بالدورات التدريبية التى ينظمها وسوق لها تكنوقراط الرطانة الذين يعنون بالمهارات بمعزل عن فهم واقع المجتمع كوسيلة وحيدة فى تطوير الميرى؟…، إلخ…
(4)
بالطبع لا يمكن الإجابة عن كل هذه الأسئلة فقط نشير إلى ما يلى: «إن الإصرار على الأخذ بسياسات اقتصاد السوق، فى وجود شراكة اقتصادية بين أصحاب المصلحة وتوظيف الجهاز البيروقراطى فى تنفيذ هذه السياسات بالرغم من التناقضات التى تتكشف فى لحظات معينة فى مسائل تتعلق بترشيد عمليات الاستيراد، أو أنشطة المناطق الحرة، أو سياسات التسعير،…إلخ. إنما يؤدى إلى عملية اختلال كبرى يصعب معها اتخاذ قرارات لابد من اتخاذها»… فأحيانا بحسب أحد الباحثين، يقدم أصحاب المصالح امتيازات لقمة الجهاز البيروقراطى، لاسترضائها كى تستمر فى تدعيم التوجه العام لحركة رأس المال. ولا يمكن فى هذه الحالة منع من فى القمة من تضفير علاقات متشابكة مع القطاع الخاص المحلى والعربى والأجنبى». تزداد أهمية من فى القمة إذا كان فى الأصل مهني/تكنوقراط، حيث تزداد قيمته فى زمن غياب التصنيع الوطنى. ومن هنا اتسعت الفجوة بين الدخول بين أعضاء القمة البيروقراطية وأعضاء قاعدتها الدنيا. لذا كان التعويض يتم من خلال القبول ببرامج معاونة من الخارج تمثل بيروقراطية موازية لما هو قائم. أو الاجتهاد فى تشكيل لجان نوعية وصرف مقابل حضور لاجتماعاتها تسهم فى تقليل الفجوة «الداخلية»… ويعد كل ما سبق تناقضات تعكس إشكاليات مركبة بكل المعايير…وأظن أن الإشكالية الأهم هو أن الشرائح المتوسطة والصغرى فى جهاز البيروقراطية المصرية والذين يمكن اعتبارهم «النواة الصلبة» للجهاز العريق/العتيق، تمارس دورا مزدوجا. الأول: ثورى عندما تطالب بحقوقها الاجتماعية والاقتصادية وتتضامن مع المتضررين من الاستبداد واللامساواة من الطبقات الاجتماعية الأخرى. والثانى: محافظ ومانع للتغيير عندما تدعم التوجهات الاقتصادية المتسببة فى الفجوة بين القلة الثروية والأغلبية من المواطنين…إنها إشكالية تتجاوز أفكار التدريب وإصدار اللوائح الإدارية… وهنا ننهى رحلتنا مع الميرى…ونواصل…