(1)
عندما قررنا أن نعالج «المسألة البيروقراطية» فى مصر، شرعنا فى دراسة التكون التاريخى للجهاز البيروقراطى المصرى، ومساره التاريخى. إيمانا بأنه لا مفر من إنجاز هذه المهمة حتى يمكن فهم ما آل إليه هذا «الجهاز العتيق» من «ترهل»، بحسب الوصف الذى استخدمته القيادة السياسية ـ مؤخرا ـ لوصف الإدارة المصرية، ومن ثم إنجاز التحديث المطلوب. يضاف إلى ما سبق أنه، ومن خلال الخبرة العملية التى أتيحت لنا، اكتشفنا أن هذا الترهل تتم حمايته من خلال كهنة المعبد الإدارى الذين يقبضون على أسرار العملية الإدارية بصورة تعوق التغيير. وأن هناك شفرات «كلية وجزئية، وعلوية وسفلية»، لابد من حلها لفهم مفاتيح البيروقراطية المصرية وكشف أسرارها.
واتضح لى أنه لا توجد دراسة تاريخية ممتدة تتعاطى مع هذا الملف. فهناك دراسات تناقش البيروقراطية فى زمن بعينه. أو ملاحظات وشهادات مثل التى عرضنا لها فى بداية هذه السلسلة لعناصر من النخبة المصرية عملت بالجهاز الإدارى وكتبت عنه مثل: «أحمد لطفى السيد، توفيق الحكيم، ويحيى حقى… إلخ». وأبحاث قليلة حول الإدارة المصرية مثل التى أنجزها: «السيد يسين وعلى ليلة». وبعض الدراسات التاريخية مثل التى أنجزها: «رؤوف عباس، وعبدالعظيم رمضان، وطارق البشرى، ورؤف عباس، وعبد العظيم رمضان… إلخ». والتى يمكن من خلال تجميعها معا تكوين لوحة شاملة وتفصيلية لفهم «المسألة البيروقراطية»، و«سر تكلسها» التاريخى.
(2)
وهو ما حاولنا إنجازه بأن نتتبع مسيرة البيروقراطية المصرية منذ الفراعنة إلى اليوم بالإضافة إلى ملاحظاتنا العملية والمعرفية وفقا للدراسات المعاصرة التى تناولت البيروقراطية فى سياقات مختلفة.. وخلصنا إلى أن البيروقراطية المصرية اتسمت نشأتها زمن الفراعنة بملامح ثلاثة: «الهرمية والتراتبية والجندية»؛ التى بقيت معها تاريخيا. بالإضافة إلى «تحوراتها» التاريخية التى اٌضطرت إليها لتتوافق مع أنظمة الحكم الوافدة باقتصاداتها المختلفة (البطلمية، والرومانية، والطولونية، والإخشيدية، والفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، والعثمانية).. ورأينا أنه بالرغم من التحديث الذى أنجزه محمد على ثم الاحتلال البريطانى على بنية الإدارة المصرية إلا أنه لم تجد تحديثا عميقا وظلت سمات النشأة موجودة، بالإضافة إلى أخطاء التطبيق التحديث والتى أبقت على الإدارة المصرية كيانا مغلقا مفارقا لمصالح لمواطنين، ومغنما لمن يعمل فيه، وعليه لا ينبغى أن «يفوت أحد الميرى».. والسؤال الذى توقفنا عنده: هل تغير شىء بعد أن أنجزت مصر الاستقلال الوطنى؟.
(3)
يمكن القول وبعد مراجعة القوانين المتعاقبة منذ الخمسينيات إلى ما عرف مؤخرا بـ «قانون الخدمة المدنية» (رقم 18 لسنة 2015)، مرورا بـ«بقانون نظام العاملين المدنيين بالدولة» (رقم 47 لسنة 1978)- إن ما يحكم التعامل مع الجهاز الإدارى المصرى ما وصفناه من قبل «بالإجرائية»، و«التنظيمية». حيث تغيب المفاهيم الحاكمة للعملية الإدارية من حيث: «فلسفة وطبيعة العملية الإدارية»، حركيتها من أعلى أم من أسفل أو لمن يكون الولاء لرأس الهرم أم للمواطنين، «ديناميكيتها» الداخلية، ربط الإدارة بالمشروع التنموى الوطنى، التشبيك الشامل بين الجهات والكيانات المختلفة… إلخ. وإذا ما عدنا إلى الفترة التى تلت قيام ثورة يوليو سوف نجد، وبحسب طارق البشرى، «أنه لم تكن هناك صورة تنظيمية دستورية وإدارية وسياسية مسبقة بنيت على أساسها تشكيلات دولة 23 يوليو ومجتمعها، إنما تراكمت الملامح والخطوط العامة والخاصة من خلال تفاعل الإمكانات المتاحة مع التشكيلات السياسة الرسمية والأهلية القائمة، وهى متفاوتة فى الصلابة والهشاشة، ومن خلال أوضاع الصراعات السياسية التى نشبت». فبقيت الإدارة المصرية تابعة للسلطة السياسية، بالرغم من أن مرحلة ما بعد 1952 قد شهدت تغيرات سياسة دراماتيكية. ونحن من الذين نميز بين: يوليو ـ الثورة، ويوليو ـ الدولة، ويوليو ـ الدولة المضادة. وعليه باشرت البيروقراطية المصرية تطبيق قرارات يوليو الثورية، وقرارات يوليو الاشتراكية بعد استقرار الدولة، وقرارات يوليو اليمينية المضادة رغم التناقض السياسى والاجتماعى والاقتصادى الحاد بينها.. لماذا؟
(4)
يجيب البشرى: «اندمجت السياسة فى جهاز الإدارة، واندمجت القيادة السياسية فى الرئاسة الإدارية، واندمجت وظائف الدولة التنفيذية والتشريعية، وحصر نطاق الرقابة القضائية بما يُمكِن من طلاقة اتخاذ القرارات ذات الأهمية السياسية أو ذات الأهمية الإدارية فى تشكيل الوضع المؤسسى الجديد». لذا رأينا إضافة نوعية جديدة لدور البيروقراطية المصرية حصلت به على أدوار إضافية على دورها «كخدمة مدنية مواطنية».. ما هى؟
(5)
حصلت البيروقراطية على أدوار سياسية ومدنية وعامة ذات طابع «وصائى/ رقابى»، فى غيبة التنظيمات السياسية والمدنية أو تغييبها. وعليه أصبح هناك ما يعرف بسلطة الإدارة التى تحدد المنح والمنع فى عدم وجود رقابة شعبية. من هنا تداخل الحزب الحاكم تاريخيا مع أجهزة الدولة والحكومة. وكانت المحصلة الختامية تنامى الهرم البيروقراطى، تحميه ترسانة من القوانين واللوائح التنفيذية، ذات العبارات الغامضة والمطاطة والتى تحتمل الأمر ونقيضه.. ونواصل…