(1)
«الجهاز العتيق»، تعبير عبقرى أطلقه يحيى حقى على البيروقراطية المصرية. نعم عتيق، لأن جذوره تعود إلى زمن الفراعنة. ومسيرته هى مسيرة طويلة وممتدة من «التضخم» و«التورم» الذى يباعد بين الحاكم/ السلطة وبين المحكومين/ المواطنين، منذ الفراعنة إلى يومنا هذا. ثلاثة أسباب ساهمت فى ذلك كما يلى: السبب الأول؛ طبيعة تأسيس الجهاز الإدارى الذى قام على ثلاثة ملامح أساسية لم تفترق عنه تاريخيا: «الهرمية والتراتبية والجندية» (راجع تفسير ذلك فى مقالاتنا السابقة)… والذى ظل يزداد تضخما فى هرميته وتراتبيته وجنديته مع كل نظام حكم وافد بعد زمن الفراعنة، أى بداية من العصر البطلمى، مرورا بالرومانى، والطولونى، والإخشيدى،
والفاطمى بعصريه، والأيوبى، والمملوكى، والعثمانى، إلى الدولة الحديثة التى انطلقت مع محمد على حتى الاستقلال الوطنى وإلى الآن. أما السبب الثانى؛ فيرجع إلى النظام الاقتصادى الذى كان يميز كل نظام حكم والذى كان يختلف عما سبقه وعما يأتى بعده. وهى ظاهرة لم يلتفت إليها، حيث كانت البيروقراطية المصرية تضطر إلى «التحور» (بالمعنى البيولوجى) كى تتلاءم مع الاقتصاد الوافد الذى تارة يكون إقطاعيا، وتارة يكون تجاريا بحريا،… إلخ. أما السبب الثالث؛ فيتعلق بأن كل جهود التحديث التى طالت «الجهاز العتيق»؛ مع محمد على، والاحتلال البريطانى، ثم الدولة الوطنية المستقلة على التوالى، لم تمس جوهر النظام الإدارى وفلسفته بالتخفيف من ملامح التأسيس التاريخية: «الهرمية والتراتبية والجندية». فكان جل الجهد هو الاهتمام بالجانب الإجرائى واللائحى والتوظيف السياسى للجهاز الإدارى.. مع عدم إهمال السياق العام من حيث التطور المجتمعى وانعكاسه على حيوية البيروقراطية المصرية… فى ضوء ما سبق، فشل محمد على الذى تعود إليه المحاولة الأولى فى العصر الحديث لتطوير النظام الإدارى كما أوضحنا فى الحلقة السابقة وأسباب ذلك.. وفاقم الاحتلال البريطانى من وضعية الجهاز البيروقراطى… كيف؟
(2)
عندما احتل الإنجليز مصر، وجدت قوتان سياسيتان، مما أطلق عليه أحمد لطفى السيد «السلطة الشرعية التى يمثلها الخديو، والسلطة الفعلية التى يمثلها المعتمد البريطانى مستندا لجيش الاحتلال». و«كلتا السلطتين لا تستطيع الواحدة منهما أن تزيح الأخرى فى الظروف السياسية والتاريخية التى كانت قائمة فى الداخل والخارج، ودارت القرارات السياسية فى هذا الإطار من الازدواج والتزاحم والتباعد» (طارق البشرى ـ 2015). فى هذا السياق، عمد الإنجليز لاستمرار تبعية مصر للدولة العثمانية، رغم محاولة محمد على أن يوجد مسافة مستقلة مع الباب العالى. كما عمدوا إلى السيطرة على الجهاز الحكومى من خلال استراتيجية متكاملة، طويلة المدى، وضعها اللورد دفرين، للسيطرة على الإدارة المصرية. تقوم هذه الرؤية على بسط سيطرة الاحتلال على الوزارات والدواوين من خلال تعيين كبار الموظفين من البريطانيين فى قمة الجهاز الإدارى بكل فروعه. كذلك وضع عناصر أوروبية فى شتى المجالات. وواصل اللورد كرومر هذه الاستراتيجية من خلال عدة تكتيكات منها: أولا: تكتيك تعيين المستشارين الإنجليز فى بنية الإدارة المصرية. ثانيا: تكتيك الوصايا من خلال جعل المشورة ملزمة. (راجع طلعت إسماعيل رمضان فى وسائل السيطرة المصرية على الإدارة المصرية). وثالثا: السيطرة الكاملة على مالية مصر وجيشها وريها وتعليمها،… إلخ، إلى الحد الذى أصبح من اليسير أن نصف هذه السيطرة «بالاحتلال الإدارى» (راجع رسالة عبير حسن عبدالباقى، الوجود البريطانى فى الإدارة المصرية ـ 2009). ما مكن الإنجليز من الاستفادة التامة من موارد مصر، خاصة فى زمن الحرب العالمية.. والمحصلة أن المصريين لم تتح لهم أن يمارسوا قيادة الجهاز الإدارى فظلوا فى أسفل الهرم الإدارى. وأن الجهاز الإدارى سُخر لصالح المحتل والنخبة المرتبطة به أى أنه لم يكن بالجملة فى خدمة المصريين.. وفى كلمات بليغة يلخص يحيى حقى وضع الجهاز العتيق فى عهد الاحتلال البريطانى بما يلى..
(3)
يقول يحيى حقى عن مصر فى عهد الاحتلال البريطانى: «مصر بقرة تحلب، ولكن ينبغى أن تترك واقفة على كوارعها توهم الناظر أنها حية وأن ورمها سمنة لا مرض النفخة الكدابة»… وعليه تكون الحاجة ماسة إلى «موظف أفندى مقفول العلم والشخصية والابتكار، إذ كان لا يقول لرئيسه إلا بلهجة العبد الذليل حاضر يا أفندم، فإنه مؤمن بأنه من طبقة ممتازة هى بالنسبة للشعب بمثابة السيد المتكبر المتعالى لا الخادم المخلص الأمين. وينبغى أن يكون انعدام الشخصية والابتكار هو دستور المدارس القليلة التى تتباهى ببنائها. شعار ذلك العهد إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه»..
(4)
فى ظل الاحتلال البريطانى كانت البيروقراطية المصرية أقرب إلى المعبد المغلق على كهنته من الإنجليز. ولم يستطع المصريون ـ إلا قليلا- أن يشاركوا فى الإدارة. وهو ما جعل المصريين لا يكتسبون مهارات الإدارة إلا بالممارسة والاضطرار إلى القيادة عند الحاجة مثلما حدث بعد تأميم قناة السويس. ولكن نجاحهم فى مجالات بعينها لم يمتد إلى باقى قطاعات الجهاز الإدارى بعد أن أصبح مصريا خالصا.. لماذا؟.. نواصل…