الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية «9»

(1)

كان مطلع السبعينيات نقطة تحول كبيرة فى تاريخ البيروقراطية المصرية. فمع الانفتاح الاقتصادى (أعلن عنه للمرة الأولى فى 21 إبريل 1973) أجرت «البيروقراطية» أكبر «تحور» لها على مدى تاريخها منذ الفراعنة. «تحور» يضاف إلى جملة «التحورات» التى قامت بها لتتكيف مع أنظمة الحكم الوافدة بما كانت تحمله من أنماط اقتصادية (بداية من البطالمة، مرورا بالرومان، والطولونيين، والإخشيديين، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، ثم مع دولة محمد على رغم التحديث الذى أقره، وفترة الاحتلال البريطانى، وأخيرا مع الاستقلال الوطنى)؛ لتستمر امتيازاتها كما هى. بيد أن تحور البيروقراطية المصرية ـ فى هذه المرة ـ قد حصل فى ظل نظام حكم وطنى. ولكنه كان مضادا لثورة يوليو ودولتها الناصرية.

(راجع تمييزنا لتحولات يوليو الثلاثة: «يوليوـ الثورة»، و«يوليوـ الدولة الاشتراكية»، و«يوليوـ الدولة المضادة الانفتاحية»).. فما هو هذا التحول ـ التحور الكبير الذى طرأ على البيروقراطية، والذى أظنه مهما لتفسير لحل كثير من الشفرات التى يتسم بها فى وقتنا الراهن؟ وما أهمية الحديث عن يوليو المضادة وانفتاحها الاقتصادى وأثر ذلك على «الجهاز العتيق»؟

(2)

يقول لنا الدكتور فؤاد مرسى فى كتابه «هذا الانفتاح الاقتصادى»؛ (الصادر فى مارس 1976) ـ فى لقطة ذكية ـ حول ما حل بمصر من تحول من جهة، وما طرأ على البيروقراطية المصرية من «تحور» لمواكبة هذا التحول من جهة أخرى، ما يلى: «.. بعد الهزيمة العسكرية جرت تنازلات لقطاعات معينة من الرأسمالية الوطنية فى صورة رفع مستمر لأسعار بعض الحاصلات الزراعية الرئيسية، وإباحة الاستيراد بدون تحويل عملة، ووقف الانتقال التدريجى لقطاعى تجارة الجملة والمقاولات إلى القطاع العام. ومع توسيع القاعدة الإنتاجية، وزيادة القطاع الرأسمالى، جرى تمايز طبقى جديد وظهرت فئات وقوى متميزة داخل الرأسمالية نفسها.. فتكونت أقسام واسعة ذات طبيعة تجارية أو مضاربة أو بيروقراطية. وهى أقسام غدت تشكل رأسمالية كبيرة جديدة متميزةعن الرأسمالية الوطنية ».. بلغة أخرى، تكونت طبقة رأسمالية مغايرة للرأسمالية الوطنية، ومتناقضة ومتعارضة معها من حيث الأولويات والتوجهات والخيارات والانحيازات. لذا لم يكن غريبا أو شاذا أن تلجأ الرأسمالية الجديدة إلى طلب العون أو فتح الباب على مصراعيه للرأسمالية الأجنبية. وكانت البيروقراطية أحد مكونات الطبقة الجديدة.. فما دلالة ذلك؟.

(3)

واقع الحال يمكن اعتبار ذلك نقطة تحول كبرى فى مسيرة البيروقراطية المصرية لعدة أسباب منها: أولا، للمرة الأولى تتجاوز البيروقراطية دورها «الأداتى» أو الخدمى لنظام الحكم واقتصاده لتتحول من أداة إلى مكون من ضمن مكونات عدة لتركيبة القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم الجديد (الانفتاحى المضاد ليوليو الاشتراكية). ثانيا، وبالرغم من تمصير الجهاز البيروقراطى بالكامل وتحريره من سطوة أنظمة الحكم الوافدة تاريخيا ومن احتكار الإنجليز له، وما كانت تفرضه قسرا لخدمة اقتصادها الوافد والأجنبى، فى ظل يوليوـ الثورة ويوليو الاشتراكية إلا أنه لم يمتن لذلك. وقبل مع باقى مكونات الرأسمالية الجديدة، باستحضار الرأسمالية الأجنبية على حساب الرأسمالية الوطنية. ثالثا، «تحور» الجهاز البيروقراطى، كما هى العادة، ولكن هذه المرة فى إطار الشراكة لا التخديم، فأعاد هيكلته ـ دون مساس بقلب وجوهر الجهازـ بما يسمح له بالتكيف مع النمط الاقتصادى الجديد الذى صار فيه شريكا لا خادما.. لهذه الأسباب بات يمكن أن نسبق كلمة البيروقراطية بالرأسمالية. لأن هذا «التحول/التحور» قد وفر ظرفا موضوعيا وبيئة مجتمعية لنشأة «رأسمالية بيروقراطية»، تتحد بحسب ـ فؤاد مرسى ـ «مع رأس المال الكبير الطفيلى» من الفئات التجارية الربوية والريعية والوكلاء والمستوردين والمقاولين والسماسرة،…،إلخ. وكانت لهذه الرأسمالية الجديدة دورها فى الدفاع عن اقتصاد السوق، والانفتاح على رأس المال الأجنبى بأشكاله.

(4)

الرأسمالية البيروقراطية؛ إذن، محطة هامة فى تاريخ البيروقراطية المصرية. حيث سمح رأس المال الجديد الانفتاحى: المصرى/الأجنبى، أن يمكن الفئات البيروقراطية (قطاع عام وحكومة) أن تحصل على دخول عالية بفضل وظائفهم تعوضهم عن الأجور القليلة الرسمية. وهو ما يبرر لماذا تم استحضار تعبير «الرأسمالية البيروقراطية». فما إن بدأت البيروقراطية تحصد مالا من عملها الميرى فإن هذا يؤدى إلى وصفها بـ«الرأسمالية» حتى وإن كان مالا لا يرتبط بشكل مباشر بظروف الإنتاج المادى..أخذا فى الاعتبار إمكانية تدوير هذا المال رأسماليا فى دورة لاحقة.. وفى هذا المقام يشير الراحل العالم الكبير نزيه نصيف الأيوبى إلى أهمية الدراسة المتأنية لدور البيروقراطية التاريخى فى التحول المأساوى إلى نظام اقتصادى وبالتالى سياسى واجتماعى وثقافى لا يرضى عنه أحد.. كانت الطريق إلى تأسيس «دولة بيروقراطية تسلطية»ـ بحسب جون ووتر برى ـ بامتياز.. وهى دولة تعوق الحريات وتتحدث عن السيادة الوطنية ولكنها لا تستطيع أن توقف تدفق المال الأجنبى، بل تتحور هيكليا للتكيف معه.. كيف؟.. نواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern