تركيا الجديدة (4) : التنمية تقوم على مشروعات تخترق العصر

كان «جاب» GAP هو رمز المعركة المفتوحة مع البطالة والفقر والحرمان..

(1)

خاضت تركيا معركة متعددة الأبعاد من أجل التقدم، فلقد أدركت النخبة التركية فى لحظة من اللحظات أن التقدم يحتاج إلى خوض معارك متداخلة ومتزامنة فى وقت واحد، البداية كانت فى تجديد الدور الاستراتيجى لتركيا أو استعادة ما اصطلح على تسميته «العثمانية الجديدة»، وعليه كانت هناك ضرورة فى إعادة تعريف دورها التاريخى الذاتى والإقليمى والعالمى. من جانب آخر كانت هناك معركة الهوية، حيث تم العمل على حل الخصومة التاريخية بين الثقافة القومية التركية والهوية الإسلامية والتوليف بينهما، من خلال ما عرف بـ«بيت المثقفين» الذى تبنى انضاج عملية التوليف بشكل تفاعلى وجدلى بين: «الكمالية (التى ليست كلها شرا) والقومية والإسلام». لقد نجحت عملية التوليف فى تجديد الهوية التركية وانطلاق أفضل ما فيها للتلاقى مع طموحات الشرائح الاجتماعية الصاعدة صاحبة حلم التقدم، وهو ما أشرنا إليه فى مقالنا السابق «الهوية المتصالحة».

وأخيراً كان هناك البعد الثالث لهذه المعركة المتمثل فى النموذج التنموى الذى يجب أن تسير فيه تركيا كى تصل إلى مصاف الدول المتقدمة.

(2)

كان مشروع «جاب»، أو تنمية جنوب شرق الأناضول من خلال تدشين سد أتاتورك، نقطة ارتكاز وانطلاق فى آن واحد. بدأ المشروع فى مطلع التسعينيات، ويعد سد أتاتورك الأكبر فى أوروبا والشرق الأوسط وأحد السدود الكبرى فى العالم، وهو واحد من 13 مشروعا فى إطار مشروع الجاب وأكبر سدوده البالغ عددها 22 سدا. كان سليمان ديميريل صاحب فكرة هذا المشروع حيث أطلق على المشروع فى بدايته اسم «العروس ذات الأقراط السبعة» لأنه بدأ بسبعة سدود فى البداية، وتشير النشرة الرسمية الخاصة بالمشروع (منشورة كاملة فى كتاب «تركيا فى زمن التحول»)، كيف أن مشروع «جاب» هو مشروع شامل تقوم استراتيجيته على:

■ تطوير وترشيد مصادر المياه والتربة من حيث رصدها فى خدمة الرى والمدن الصناعية.

■ توليد طاقة كهربية كبيرة.

■ إدارة المؤسسات الزراعية بشكل أفضل وتحسين استثمار التربة بفضل التطبيقات الزراعية باستخدام الأساليب الحديثة.

■ تشجيع الصناعات التحويلية عن طريق التركيز على التصنيع والإنتاج المعتمد على المصادر المحلية من الغلال والمحاصيل الزراعية.

■ تقديم الخدمات الاجتماعية للجميع.

وتشير مؤشرات التنمية الناتجة فى 2005 عن هذا المشروع إلى ان الناتج الإقليمى الإجمالى قد بلغ 8%، وأن معدلات النمو فى كل من الزراعة والصناعة قد بلغت على التوالى 5 % و10 %.

(3)

إن الفكر الذى حكم إطلاق هذا المشروع هو التغلب على البطالة والفقر والحرمان، بحسب «ديميريل». ويؤكد ذلك تورجوت أوزال الذى أشرنا (فى مقالنا الثانى من هذه السلسلة المعنون «تقدم يبدأ برؤية وقاعدة اجتماعية») إلى أنه صاحب رؤية تحمل عنوان «نموذج جديد من أجل تركيا»، تميزت بالحديث عن أفكار جديدة اقتصادية وسياسية تنطلق من ضرورة بناء تركيا جديدة كبيرة وقوية، وبالفعل نجده يقول عند تدشين سد أتاتورك فى 24 يوليو 1992 إن «هذا الإنجاز هو رمز لمواجهة التاريخ الذى شهد هزيمتنا أمام الغرب، منذ تراجعنا أمام فيينا إلى الآن».

(4)

هذه النوعية من المشاريع هى التى وضعت تركيا فى المستقبل، وجعلت حلم النخبة التركية يتحقق – بعض الشىء – فى أن يكون القرن الواحد والعشرون هو قرن تركيا. (لمزيد من التفاصيل حول التحولات الاقتصادية فى تركيا منذ عشرينيات القرن العشرين إلى يومنا يراجع Tracing The Economic Transformation Of Turkey From 1920’S To EuAccession-2008 مشروعات عُرفت فى الأدبيات العلمية بأنها: «لا تخترق الجبال بل العصر».

صحيح تعرض المشروع للكثير من الاعتراضات لكنها فى الأغلب كانت اعتراضات خارجية، وكان هذا المشروع بداية انطلاقة كبرى لمشروعات فى شتى المجالات للجميع وليس لقلة. الخلاصة أن التقدم لم يكن سهلا بل كان خلاصة حرب متعددة العناصر: استعادة الدور التاريخى بالإبداع والخيال (بحسب الصديق مصطفى اللباد)، وتحقيق تصالح تاريخى للهوية، وأخيرا تبنى رؤى تنموية استراتيجية تضمن توفير بنى تحتية وتفتح آفاقا للاستثمار بلا حدود.. ونواصل حديثنا عن تركيا الجديدة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern