تركيا الجديدة (3).. الهوية «المتصالحة»

إسطنبول: هوية متصالحة…

تتقدم بجدية نحو العصر بغير خصومة مع ثقافتها

(1)

الزائر لمدينة إسطنبول يمكنه أن يلحظ بسهولة كيف استطاعت المدينة أن تعكس كيف تمكن الأتراك من إعادة اكتشاف هويتهم وتأسيس «هوية متصالحة»: تصالح بين التاريخ والجغرافيا، وبين الثقافة القومية والثقافة الدينية، بين الإرث العثمانى الإسلامى والنهوض الحداثى الكونى. المدينة تعج بالسكان وتفتح أحضانها لكل الأجناس،

 الذين يأتون للسياحة وللتجارة وللتبادل الثقافى وللتعاون الصناعى والتكنولوجى، كذلك للتعرف على تجاربهم المختلفة، وهو الهدف الذى ذهبنا من أجله لإسطنبول لفهم تجربتهم فى مجال المحليات، وقد تصادف أثناء زيارتنا أنهم كانوا يستقبلون ثمانية وفود من دول مختلفة لنفس السبب. هكذا استطاعت إسطنبول أن تستوعب التنوع وتضمن الاحترام بين المختلفين.

(2)

واقع الحال أنه لم يكن لتركيا أن تنهض بغير أن تنجز مهمة المصالحة بين التراث والحداثة وبين الإسلام والعلمانية وبين الزمان والمكان والمطلق والنسبى… إلخ. إنها المهمة التى عرفت بسياسة «التوليف التركى الإسلامى» واعتبرت سياسة رسمية فى مجال الثقافة الوطنية»، وتعود بدايات حركة التوليف التركى الإسلامى إلى مطلع الستينيات من القرن الماضى

 (كما يقول ميشال نوفل)، حين تأسس «معهد الأبحاث حول الثقافة التركية»، الذى أصبح مع صدور الدورية الشهرية «الثقافة التركية» مطلع السبعينيات أداة مهمة لنشر أيديولوجيا التوليف التركى الإسلامى. لحق ذلك حدث مهم هو قيام أحد أهم المؤرخين الأتراك إبراهيم قفص أوغلو

 بتأسيس ما عرف فى السبعينيات بـ«بيت المثقفين»، مكرساً إياه المؤسسة، التى تتبنى إنضاج عملية التوليف بشكل تفاعلى وجدلى من خلال رؤية للتاريخ تقيم توليفا بين: «الكمالية (التى ليست كلها شرا) والقومية والإسلام». لقد نجحت عملية التوليف فى تجديد الهوية التركية وانطلاق أفضل ما فيها للتلاقى مع طموحات الشرائح الاجتماعية الصاعدة صاحبة المشروع الخاص بالتقدم. (فى هذا المقام نحيل لكتاب: Modernity Islam, Secularism in Turkey – 2005).

(3)

الرغبة فى النهوض كانت منطلق العمل لحل إشكاليات الهوية. نهضة تقوم على اللحاق بالعصر، تتجاوز الخصومات التاريخية ولا تقف عند هوامش الدين وتنفتح على جديد العصر. نقطة الانطلاق هى: كيف يمكن تشكيل تركيا جديدة تأخذ فى الاعتبار أفضل ما أنجزته «السلطنة» و«الأتاتوركية» معا وإعمال الجدل الجدى بين الإسلام والعلمانية وإنتاج ثقافة

وطنية وسياسات ثقافية تعبر عن ذلك. لماذا؟ لأن أى نهوض يحتاج إلى جهد كل أبناء الوطن، لذا لابد من توفير الثقافة الوطنية الموحدة بين المواطنين، أخذا فى الاعتبار أن التنوع بين هؤلاء المواطنين هو الأصل وليس التنميط.

 وبحسب أحد مهندسى هذا التوليف «إن الأمة التركية سيكون فى إمكانها التوصل إلى وحدة حقيقية عندما تكون هذه الثقافة الوطنية متوافرة للشعب»، وبالفعل يجد المرء تجليات هذه الثقافة فى مناهج التعليم وفى الإعلام وفى المجالات الثقافية المتعددة.

 لقد نجح التوليف التركى الإسلامى فى أن يخدم النهضة بأن جعل كل تركى يفخر بتاريخه الذى يعود إلى 8500 سنة، كما أشرنا فى المقال السابق إلى أنها تيمة تجدها فى كثير من أحاديث المسؤولين عند تقديمهم المشاريع الكبرى، كذلك بالرابطة التى تربط تركيا بمجالاتها الحيوية العربية والآسيوية والأوروبية… إلخ.

(4)

فى المحصلة نمت تركيا واستطاعت أن تحقق 11.5% معدل تنمية. كما أصبحت من الدول العشرين الكبرى، فلقد تجاوزت (بحسب فالح عبدالجبار) ماضيها العسكرى وشهدت توسع (والأهم تراكم) الطبقات الحديثة الوسطى. وترسخت فى تركيا المؤسسة التشريعية: البرلمان كما تأكدت مرجعية الدستور،

 واهتمت القوى الاجتماعية الجديدة من رجال الأعمال والطبقات الوسطى الصاعدة بالاقتصاد الإنتاجى وبتحقيق الرفاه ومراعاة البعد الاجتماعى، لا بالاقتصاد الاحتكارى الريعى، فى سياق ثقافى قادر على استيعاب التنوع دون خصومة أو هيمنة، وهو ما يلاحظ بيسر فى كل مكان، وكذلك عدم استئثار أى اتجاه بالهيمنة على الآخر،

 ومن هنا نجد الاحترام المنضبط من قِبَل الجميع للتنوع وللرموز الثقافية التابعة لكل تيار واتجاه ومعتقد.. كل هذا تعبر عنه إسطنبول.. ويتواصل حديثنا عن تركيا الجديدة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern