تركيا الجديدة (5) : التقدم يبدأ من المحليات

تركيا الجديدة محصلة جملة عوامل…

(1)

رؤية استراتيجية تحديثية حملتها نخبة/ طبقة واصلت سلسلة الإصلاحات التى عرفتها تركيا العثمانية وكانت ذروتها مع أتاتورك. نخبة ثقافية أدركت ضرورة تجاوز الخصومة بين القومية التركية وإسلامها فأبدعت هوية متصالحة، كما استطاعت الطبقة الوسطى الصاعدة المنفتحة على العصر أن تُفعل الانطلاقة الأتاتوركية الأولى التى عرفها الأتراك فى عشرينيات القرن الماضى ومعالجة نواقصها، بطرح رؤية لدور تركى عابر للحدود عنوانه العثمانية الجديدة.. عثمانية جديدة مجالها الحيوى متعدد الانتماءات: أوروبى، وآسيوى، وعربى. وهو المشروع الذى التفت حوله النخبة الثقافية والسياسية والعسكرية، الذى بات حقيقة ملموسة، لم يكن ليتحقق دون أن تتوفر له قاعدة اقتصادية صلبة قوامها مشروعات استراتيجية إنتاجية مركبة: صناعية وزراعية وكهربية ومائية وتكنولوجية، عرضنا لملامحها فى الأسبوع الماضى.

(2)

من جانب آخر، كان لابد لمشروع التقدم هذا من بنية داخلية قادرة على أن تواكب الحلم الكبير، من هنا كان الشعار «التقدم يبدأ من المحليات». خاصة أن السؤال الذى فرض نفسه: كيف يمكن لعب دور إقليمى فى اتجاه قارات متعددة تحت مظلة العثمانية الجديدة والداخل يحتاج إلى الكثير من التجديد. وبالفعل كانت المحليات هى المساحة الأولى لانطلاقة تركيا الجديدة؟ لم تكن قضية المحليات فى اسطنبول وهو المكان الذى دُعى إليه الوفد الرسمى لمحافظة القاهرة للاطلاع على تجربته الرائدة فى تطوير المحليات مجرد تحسين الخدمات الحياتية فقط للمواطنين، أى مجرد مسألة فنية إدارية خدمية، وإنما الأمر أعقد من ذلك.. كيف؟

(3)

المحليات فى الرؤية التركية انطلقت من أنها عملية تنموية وسياسية فى المقام الأول، فمن الجهة السياسية باتت تعد جزءا من التطور الديمقراطى للمجتمع، ما يعنى أن يكون المواطن هو بطلها الأول. بهذا المعنى تكون المحليات هى بداية الطريق للمشاركة السياسية للمواطنين وأن يدير هؤلاء المواطنون شؤونهم المحلية بأنفسهم. من الجانب التنموى أبدعت الذهنية التركية فكرة الشركات المتخصصة فى إدارة الأمور التقنية من: مياه وبناء مساكن وجمع قمامة وإعادة تدويرها ونقل عام ومرور…إلخ. شركات تعطى أولوية للفقراء والمهمشين ثم ترتقى فى اهتماماتها بالمستويات الاجتماعية الأعلى بحيث تتناسب التكلفة مع قدرة كل مستوى اجتماعى، وهذه الشركات تكون مملوكة للبلديات وفى الوقت نفسه تدار بمنطق خاص، وفى المحصلة تعود المحليات لتكون تجسيدا لإرادة المواطنين ومصالحهم وليست تعبيرا عن إرادة السلطة وتقديراتها وأهوائها، بلغة أخرى.. المحليات عندما تتبلور من أسفل بالانتخاب تختلف جذريا عما إذا تشكلت من أعلى.

(4)

فى هذا السياق، تم تحديث المحليات بكل ما تعنيه كلمة تحديث فى علمى السياسة والاجتماع، تحديث شمل: البنية المادية، والكادر البشرى.. تحديث يأخذ بالرؤية العلمية والفكر المستقبلى، والاستراتيجيات السياسية لتركيا، واستخدام التقنيات المتطورة فى العمل، وتبنى دولاب عمل إلكترونى بعيد كل البعد عن النظام الورقى «الملفاتى المستندى»، تحديث امتد إلى نمط المبانى وديكورات المكاتب وتحديد أماكن الراحة والعبادة والطعام من خلال أثاث حديث وبسيط ومريح. منظومة حداثية متكاملة تدار بعقلية علمية متطورة قوامها جيل شاب متحمس ومشارك فى تشكيل تركيا الجديدة، تركيا جديدة تنطلق من محليات متطورة منتخبة تدير العمل فى المجالات المختلفة من خلال شركات متخصصة تضم كوادر فنية محترفة حيث المسؤولية واضحة والإنجاز سيد الموقف.

(5)

وتعكس طريقة عرض المشروعات المتخصصة المختلفة لكل مجال من مجالات عمل المحليات إلى غلبة الرؤية الاستراتيجية المستقبلية من جهة، وإلى ارتباط هذه المشروعات التى يتم تخطيطها وتنفيذها محليا بضرورة أن يمتد نشاطها إلى خارج الحدود حتى تؤتى ثمارها من حيث التكلفة، وهو العائد العملى المباشر، ومن حيث تحقيق الدور الإقليمى التركى. ويكفى أن نلقى الضوء على بعض من هذه المشروعات بالأرقام حتى ندرك حجم المعجزة التركية دون مبالغة.. وهو ما نعرض له فى مقال مقبل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern