تركيا ملتقى القارات الثلاث.. وحضارة 8500 سنة
(1)
عبارة سمعتها أكثر من مرة أثناء زيارتى لتركيا ضمن وفد محافظة القاهرة لدراسة تجربة المحليات فى مدينة اسطنبول. ففى معرض تقديم الخبرة الخاصة فى تقدم اسطنبول فى مجالى النقل: السكك الحديدية والمترو، والمياه والكهرباء تجد المتحدث المكلف بعرض كل خبرة يستهل حديثه بأن تركيا ملتقى القارات الثلاث. إنها العبارة السحرية – كما تحققت من ذلك فى أكثر من دراسة – والمفتاحية للتقدم التركى.
فلقد كانت تركيا – وبحسب أحد الباحثين – منذ تأسيس الجمهورية فيها عام 1923، تستوحى فى سياستها شعار مصطفى كمال أتاتورك الشهير «سلام فى الوطن، سلام فى العالم». أى مادام السلام الداخلى مستتبا فالخارج بخير أيضا. وهو الشعار الذى كان يعبر عن منهج انعزالى أدى بتركيا إلى أن تكون – بإجماع الكثيرين – «دولة هامشية» أو «دولة ظل»، دورها الوحيد أن تكون مركز شرطة متقدماً فى مواجهة المعسكر الشيوعى أو الكتلة الشرقية خلال فترة الحرب الباردة.
(2)
ومع انتهاء الحرب الباردة، انكشفت أغطية كثيرة منها: وضع اقتصادى محدود النمو، مع معدل نمو سكانى يبلغ 5.2% ومعدل هجرة إلى المدن يبلغ 2.4%، ومشاكل اجتماعية مركبة لعل من أبرزها «الترييف» الذى أعاق التطور الحضرى الذى كان يقصده أتاتورك، وأزمة الهوية التى صعدت إلى السطح بين العلمانية والإسلام، والصراع الذى احتدم لفترة بين العسكر والنخبة السياسية، وأخيرا هامشية الدور التركى. من هنا أخذت النخبة فى تطوير رؤية استراتيجية مفادها أن تركيا تقع وسط بنية سياسية – جغرافية تمكنها من الانطلاق والتقدم. تتشكل هذه البنية من مجالات حيوية ثلاثة (بحسب أحد الخبراء الاقتصاديين) وذلك كما يلى:
■ الاتحاد المسيحى الممتد من الأطلسى إلى الأورال، الذى يشمل روسيا وجورجيا وأرمينيا، وكذلك إسرائيل جنوبا.
■ الجمهوريات الإسلامية السوفيتية السابقة.
■ الحزام الإسلامى الذى يشمل المشرق العربى وإيران وباكستان.
وانطلاقا مما سبق فإن تركيا بحكم توسطها هذه الدوائر الثلاث، يمكنها إذا اتبعت مشروعا للتقدم الاقتصادى والسياسى أن تنطلق انطلاقة كبرى نحو تركيا الكبرى.
(3)
ونشير فى هذا السياق إلى أهمية الدور الذى لعبه تورجوت أوزال (1927 – 1993)، مؤسس حزب «الوطن الأم» عام 1983 وتولى رئاسته ورئاسة الحكومة بين عامى 1983 و1989 وانتخب رئيسا للجمهورية التركية عام 1989. فلقد كان أوزال يعبر عن الشرائح الاجتماعية الوسطى «المدينية» الجديدة الصاعدة التى مثلت القاعدة الاجتماعية للتقدم. وكان يمثل حالة وسطاً وتياراً ثالثاً بين الزعيمين التقليديين المعروفين اللذين كانا يتناوبان رئاسة الحكومات التركية خلال عقد السبعينيات من القرن الفائت: سليمان ديميريل الذى كان يعتبر ممثلا لليمين المحافظ، وسليمان أجاويد ممثل اليسار الديمقراطى الاشتراكى. جاء أوزال برؤية تحمل عنوان «نموذج جديد من أجل تركيا» تميزت بالحديث عن أفكار جديدة اقتصادية وسياسية تنطلق من ضرورة بناء تركيا جديدة كبيرة وقوية. وفى هذا المقام كان يقول «إن هناك أعمالاً كثيرة تنتظر تركيا إنجازها من بحر الأدرياتيك إلى سور الصين إذا ما أردنا أن نكون دولة عظمى فى القرن الحادى والعشرين..».
(4)
شرع أوزال فى تعمير البنية التحتية، وإطلاق يد القطاع الخاص. ولكن بحساب دقيق لم يمنع من بقاء مجالى التعليم والصحة من ضمن مسؤوليات الدولة. ونشير هنا إلى الكيفية التى طور بها هذا النموذج السيد أردوجان أولا من خلال المحليات (وهو ما سوف نتطرق له فى حلقة مقبلة) حيث تمكن من تنفيذ تنمية وطنية تجمع بين الشركات الخاصة والدولة فى إطار المشروع التنموى الشامل للدولة لاحقا. ويقول أحد الباحثين إنه لابد من تسجيل كيف أدركت النخبة العسكرية التركية – باكرا – ضرورة تجاوز الكمالية، لقصورها فى تأطير الحياة اليومية فى بلد أخذت تتسارع فيه وتيرة العمران والنمو السكانى فى ظل اشتداد أزمة البحث عن الهوية والاستقطاب الاجتماعى الناتج من سياسة اقتصادية ليبرالية شرسة تم ترويضها مع الوقت. ونواصل الحديث عن تركيا الجديدة فى الأسبوع المقبل.