«احلب الدر حتى ينقطع واحلب الدم حتى ينصرم»
(1) يتداول المؤرخون هذه العبارة للتدليل على أنه ما إن ينصرف الحكام عن بناء الدولة المصرية المستقلة والنهوض بها كما هو الحال فى وقت الدولة الطولونية والإخشيدية، حتى تعمد السلطة المحلية أو بضغط دولة المركز إلى اللجوء إلى عمليات نهب وسلب للناس بشتى الطرق. ولم يكن الحكام يفرقون فى الظلم ومص قوت الشعب المصرى بين فرد وآخر. فكانوا يجمعون الجزية من الأقباط والخراج من المسلمين. ولم يحد التماثل الدينى من أن يدفع فقراء المسلمين ما يفرض عليهم من إتاوات مثل الأقباط.
(2) وتشير القراءة التاريخية التى تعنى بتحليل السياق المجتمعى ولا تقف عند القراءة الدينية المحلقة بعيدا عن الواقع للتاريخ إلى أن عصرى الدولتين الطولونية والإخشيدية قد اتسما بالازدهار الاقتصادى. ويرجع ذلك إلى أن هذين العصرين كانا يمثلان محاولة لإقامة دولة ناهضة مستقلة لمصر بعيدا عن دولة المركز. لذا كان الحكام يقومون بجمع المال للصرف على مصر والمصريين لا للجباية لصالح بغداد كما يقول أحمد صادق سعد.
اتسمت هذه الفترة بالعناية بالرى والصرف، ونمو التجارة الخارجية، وكانت المحاصيل وفيرة، وأحاط ابن طولون الحيازة الزراعية بضمانات، وألغى عددا من الضرائب، وانتشرت الزراعات التى تنتج للسوق وللتشغيل الحرفى فى المدن مثل الكتان. كما عرفت نهضة نسبية فى مجال الصناعات الحرفية مثل الأقمشة الحريرية والأثاث والمعادن والمنسوجات والورق المصنوع من الكتان الذى حل محل البردى. وأرسل الحكام آنذاك حملات إلى بلاد النوبة لحماية مناجم الذهب.
(3) زاد الفائض الزراعى والصناعى على احتياجات الاستهلاك الداخلى، وارتقى التبادل السلعى كما نشطت التجارة الداخلية والتصدير. على مدى زمنى غير قليل شهدت مصر حالة من الازدهار والاستقلال والاستقرار. ولكن ولأسباب تتعلق بتضخم الجهاز البيروقراطى تعثرت التجربة، حيث عملت القوة الإدارية هذه على إفشال كل ما تحقق بالحصول على مزايا كبيرة على حساب عموم الشعب المصرى. واستئثار البيروقراطية بناتج النهوض الاقتصادى واعتصار الكادحين من المصريين. وفى النهاية ضعفت الدولة وسقطت فى أيدى العباسيين.
(4) فى هذا السياق، وفى الفترة الأخيرة من الحكم الطولونى ونتيجة التراجع الاقتصادى وقهر المصريين أصبحت الثورة تعم الكثير من الدلتا (بداية من 767م). وما زاد من تفاقم الأوضاع هو التدخل من قبل المأمون فى الداخل المصرى، وزيادة الأعباء على المصريين من خلال «حَلب» مصر وحضوره بنفسه لقمع الثورة، حيث – وبحسب نعمات أحمد فؤاد ـ «قسا فيها المأمون على مصر بما لا تغفره له مدنية الإنسان». وبدأت تتزايد مطالب المصريين التى اتخذت سمة الثورة الفلاحية الشاملة أو الثورة المصرية الكبيرة العارمة التى شملت مصر كلها بحسب المقريزى ما بين عامى 830 و832 م، حيث «خلع المصريون الطاعة لسوء سيرة السلطان». فلم يعد الثوار يكتفون بطلب تخفيض الضرائب أو الكف عن الاضطهاد الدينى، وإنما كان مطلبهم هو التحرر التام من كل ما يعانون منه. وكانت هذه الثورة هى الثورة التى عُرفت «بثورة البشامرة» نسبة لأهل بشمور.
ومن أهم ما ميز هذه الثورة أنها جمعت بين المصريين من المسيحيين والمسلمين ووحدتهم ضد الظلم والقهر من جهة، وبين المصريين والعرب من جهة أخرى.
(5) وهكذا انتفض (ثار) أهل مصر جميعا: «قبطها ومسلموها وعربها» بحسب المقريزى. ثاروا على الظلم والقهر. ظلم أساسه عوامل مركبة جديرة بالدراسة تفسر كيف يتم تجاوز الخلاف الدينى والقومى بين البشر لمواجهة المُستبد والمُستغل أيا من كان.
ثورة البشامرة هى حلقة من حلقات ثورات المصريين. كتبنا أولا عن ثورتهم الأولى على الإقطاع فى العصر الفرعونى، ثم عن «تمردهم المزمن» فى العصر القبطى. وها نحن نكتب عن ثورتهم الأشهر التى امتدت مطولا فى ظل فشل الدولة المستقلة الطولونية وتبعيتهم لدولة مركز خارجها وقت العباسيين. إنها ثورات فى الواقع اقتصادية كما تؤكد سيدة إسماعيل الكاشف. إنها رفض المصريين للنظام الإقطاعى فى مصر الفرعونية، وكما يفسر أستاذنا وليم سليمان قلادة رفض للنظام الريعى الوثنى الرومانى والدينى البيزنطى والأموى والعباسى.
ونواصل حديثنا عن الثورات المصرية.