الثورات المصرية (2) : عن الثورات «التمرد الجماهيرى المزمن»الثورات المصرية

«نود أن تعلموا أننا لم نسلم أبدا أنفسنا لكم، لا فى أيام والدكم ولا فى أيامكم، وحيث إننا نقوم بما هو مطلوب منا فلا نحنى أنفسنا أمام أحد» ولن.

هذه العبارة تحفظها لنا إحدى البرديات التى تبين لنا عزة نفس الفلاح المصرى من جهة، كما تعكس لنا أنها كانت السمة العامة التى ميزت الروحية التى اتسم بها الشعب المصرى على مدى حقب تاريخية ممتدة، فالثورة الأولى على الإقطاع التى أشرنا إليها فى المقال السابق، التى جرت فى الأسرة السادسة الفرعونية، سوف نجدها تتكرر مرة تلو الأخرى حتى باتت ظاهرة مستمرة خاصة مع نهاية العصر البطلمى (القرن الأول ق. م).

فلقد اشتدت الحركة الثورية الفلاحية خاصة بعد أن اقتربوا من أن يكونوا أقرب إلى العبيد لسادة لا يعيشون معهم وإنما فى المدن الإغريقية (اليونانية). من هنا أصبح «التمرد حالة مزمنة»، (بحسب أحمد صادق سعد فى مجلده العمدة «تاريخ مصر الاجتماعى – الاقتصادى»). وتنوعت أشكال التمرد من: عصيان إلى حرق للسجلات الحكومية التى تُحفظ فيها صكوك الديون والملكية فى ظل البطالمة، وحدوث صراعات محلية فى كل القطر. وكانت المظاهرات الدائمة سمة أساسية آنذاك. كما انتشرت فى الوقت نفسه العصابات المكونة من الجنود المسرّحين والرجال المعدمين التى تجوب الريف وتتعيش من النهب وقطع الطرق.

لقد كانت النظم الحاكمة الوافدة التى بدأت بالهلينيين، أو القادمين من اليونان مع نهاية العصر الفرعونى، أنظمة حكم مستعمرة فرضت الكثير من القيود على المصريين الذين كانوا يعملون بالفلاحة. وكانوا يتفننون فى فرض أنواع وأشكال من عمليات الجباية والجزية والرسوم ودوما يعتبرون المصريين ليس فقط مواطنين من الدرجة الثانية وإنما هم أقرب إلى العبيد. واستمر الحال على هذا المنوال فى الفترتين الرومانية والبيزنطية حتى دخول العرب إلى مصر. ويمكن القول إجمالا إنه فى ظل الحاكم الوافد وغياب الدولة المركزية المحلية (الوطنية) ساد الإقطاع المملوك لوافدين رافقه ركود اقتصادى. ومن الأهمية بمكان القول إن أنظمة الحكم الوافدة كانت تعتمد على البيروقراطية أو تكوين جهاز من الموظفين الموالين لجمع الإتاوات والمغانم ولتنفيذ السياسات الخاصة بها، فزاد الفساد وانتشرت الرشوة وكثرت الرسوم «عمال على بطال».

الخلاصة: كان هناك احتلال أجنبى يمارس استغلالا اقتصاديا مكثفا، إضافة – وكما يقول طاهر عبدالحكيم فى كتابه التأصيلى «الشخصية الوطنية المصرية: قراءة جديدة لتاريخ مصر» – إلى الامتهان القومى الذى كان يعانى منه جميع المواطنين. امتهان يجعل المصرى فى أسفل السلم المجتمعى، يعلوه اليهودى، والإغريقى يعلو اليهودى، والرومانى يعلو الجميع. لقد جمع الحكم الإغريقى/الرومانى بين سمتين كريهتين للمصريين فى نظر المؤرخين هما: الاحتلال الأجنبى وتحطيم الحياة المشتركة. الخلاصة أنه لم تترك أنظمة الحكم الوافدة «وسيلة إلا ابتكرتها لاستغلال موارد البلاد إلى أقصى حد ممكن».

■ من هنا كان التمرد الجماهيرى «مزمناً» لا يهدأ، حيث حول الظلم والقهر الممتد الشعب المصرى – بحسب سيدة إسماعيل الكاشف – إلى شعب عنيد مقاوم».

كانت الضرورة التاريخية تتطلب قيادة وطنية توجه السخط الشعبى المزمن وتقود المقاومة الوطنية فى مواجهة الاستغلال والامتهان القومى، وعليه تبلورت مقاومة ذات طابع قومى، وجد المصريون المضطهدون فى المسيحية منفذا للفقراء والبسطاء، فشحذت نضالهم – بحسب المؤرخين – وجمعت لهم فى لمح البصر تراثا من التضحية والفداء الجماهيرى بحسب أحدهم. لعب الإيمان دورا تقدميا فى مواجهة قهر الحكام الوافدين. لذا حُق للدكتور إسماعيل صبرى عبدالله أن يدعو إلى تسمية هذه الفترة الممتدة لسبعة قرون بـ«العصر القبطى» لأنها تعبر عن نضال المصريين، ذلك بدلا من التسمية الغربية لهذه الفترة.

يشير التاريخ إلى أن نضال المصريين لم ينقطع، وأنه طالما وجد الظلم وجد النضال بأشكاله المختلفة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern