الثورات المصرية (4): هبات الفلاحين المتكررة فى زمن المماليك

تسجل لنا كتب التاريخ أن مصر وقت العصر المملوكى الذى امتد من منتصف القرن الثالث عشر (1250م) إلى تأسيس الدولة العثمانية مطلع القرن السادس عشر (1517م)، عاشت عصرا شابه التدهور الاقتصادى والاجتماعى فى العموم. لذا كان هذا العصر يتسم بالهبات المتكررة من فئات المجتمع.

(1) كان التدهور هو العنوان الرئيسى للفترة المملوكية (بمراحلها الأيوبية والبحرية والبرجية بحسب التقسيم التاريخى). تدهور فى كل المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية. وهو ما سهل انهيار الدولة المملوكية لصالح العثمانيين.لقد حمل النظام المملوكى منذ اليوم الأول أسباب انهياره، التى منها الصراع الضارى بين الملل المملوكية المتنوعة. فلقد كان ولاء المماليك هو لتعظيم مصالحهم باستخدام القوة باعتبارهم فى الأصل محاربين محترفين مرتزقة، الأمر الذى انعكس فى سلوك الدولة. حيث باتت الدولة دولة إقطاعيات مملوكية لا هم لها إلا فرض الإتاوات على المصريين. كما حرص المماليك على أن يميزوا أنفسهم عن المصريين فعاشوا «دون أن تكون لهم أى رابطة تربطهم بالمجتمع».

(2) ويؤكد ما سبق أن العثمانيين لم ينجحوا فى احتلال مصر لأن جيشهم كان أقوى، بل لأنهم وجدوا أمامهم حكما منهار- بحسب أحمد صادق سعد- فلقد كان هذا الانهيار «كامنا فى التكوين الاجتماعى الاقتصادى المصرى» أساسا. لقد كان النظام الاقتصادى المصرى وقتئذ يتسم بالإقطاع ولكنه كان إقطاعا عسكريا يتم منح الأراضى فيه للمماليك. وكانت الأراضى مطمعا بمعنى أن كل مملوك يملك أرضا كان يحاول أن يحصل على أرض الآخرين من الأمراء. وهكذا كانت الأرض أو الإقطاعية وما يحصل من إيرادات تنتقل من أمير لآخر بعد أن يغلب. وعليه كان الإقطاع- أو الأرض- دائم الانتقال من مملوك لآخر.الخلاصة أن الأرض كانت محورا لصراع دائم. وهنا مكمن الاختلاف عن الإقطاع الغربى الذى كان مستقرا.

(3) النتيجة أن الإقطاع فى مصر لم يحول صاحبه إلى سيد على الفلاحين ومن ثم تنمو الزراعة بشكل منتج، تنبثق عنه الانطلاقات الصناعية والحضرية. فلقد كان هم المملوك هو تعظيم الاستفادة من الأرض لصالحه لأنه يعرف داخليا أن ملكيته لن تدوم وحتما سوف تكون محل صراع تؤول فيها الأرض لغيره الذى سوف يغلب .فى هذا السياق تفتتت الأرض، وساءت أحوال الفلاحين وتأثرت التجارة حيث تحول التجار إلى وكلاء للأمراء تاركين الميادين الإنتاجية ومكتفين بالمضاربة السريعة فى الحياة الاقتصادية وفسد الجهاز الإدارى الذى «تبرقط». وتأثرت بعض الصناعات البازغة وبسبب احتكارها وتعرضت لخراب بالغ.

(4) على الرغم من اتفاق الباحثين على أن هذا العصر لم يشهد ثورات شعبية حقيقية – بالمعنى العلمى الدقيق – إلا أن زمن المماليك شهد هبات فلاحية دائمة، كذلك هبات مستمرة من قبل الفقراء والمعدمين فى المدن. ويرصد لنا صبحى وحيدة تفاصيل المشهد الاقتصادى الاجتماعى فى كتابه العمدة «فى أصول المسألة المصرية»، والمدى الذى اتسم به من سوء.وعليه تعددت الهبات والانتفاضات بداية من عام 1291 بما عرف بثورة القاهرة، وبهبات إسكندرية ودمياط وغيرها.وتشير كتب التاريخ إلى انتشار حركات المعدمين وانتفاضات الجائعين للانتشار غير الطبيعى للمجاعات. وكثرت السرقات وعمليات قطع الطرق وتحركات الزعران والشطار والحرافيش.

وعرفت مصر ما يعرف بالانتفاضات العامة أعوام: 1369و1401و1449و1450و1480.

(5) صحيح لم تؤد هذه الهبات والانتفاضات إلى إحداث تغيير حقيقى يأتى بالمحكومين المصريين إلى الحكم بدلاً من الاثنية الوافدة الحاكمة، إلا أنها تشير إلى مدى الخلل الذى أصاب البنية المجتمعية الذى لا يمكن السكوت عليه.لقد انشغلت الفرق المملوكية بأن تحارب بعضها البعض، بالتقاتل من أجل المغانم الخاصة على حساب بناء الدولة المصرية ذات القدر الكبير. وفى هذا المقام كان الحكام يؤلبون المصريين على بعضهم البعض ويوظفون الدين من أجل مصالحهم وهو ما استحالت معه الاستمرارية فكانت الهبات المتكررة من المصريين الذين لم يكونوا خانعين كما هو شائع، وهو ما دللنا عليه فى هذه المقالات بداية من العصر الفرعونى حيث كانت أول ثورة على الإقطاع ثم الفترة القبطية، حيث كان التمرد مزمنا، ثم وقت الدولتين الطولونية والإخشيدية حيث رأينا ثورة عارمة جامعة للمصريين.

ونواصل حديث الثورات المصرية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern