الثورات المصرية (1) : عن الثورات لماذا ومتى وضد مَن يتحرك الناس؟

«وأصبحت الأرض تدور كعجلة صانع الفخار».

هذه العبارة قالها الحكيم المصرى القديم إيبور فى وصفه لأول خبرة ثورية عرفها التاريخ البشرى. ففى مصر الفرعونية وفى أعقاب الأسرة السادسة، أى حوالى عام 2280 ق.م قامت أول ثورة شعبية فى التاريخ ضد اليأس والظلم والطبقية والإقطاع، ومنذ هذا التاريخ استمرت الثورات والانتفاضات، ليس فقط فى مصر وإنما فى العالم كله.

(1)

عن الثورات ولماذا يثور الناس سيكون حديثنا خلال الشهر الفضيل والذى يواكب أيضا فى هذا العام صوم السيدة العذراء الكلية التطويب، وهو صوم شعبى بامتياز لدى أقباط مصر، فمن جهة يحاول الصائمون التقاط الأنفاس دوماً فى فترات الصوم، ومن جهة أخرى لتكن هذه الفترة أيضا فترة لاكتشاف معنى الثورة وكيف تكون طاقة للتقدم. ودافعى لذلك هو محاولة البعض التعامل البسيط والمختزل لحراكنا الثورى الأخير. واختزال نضال المصريين فى أمور تزيد من الاشتباك السياسى، والأخطر العراك الدينى.

(2)

قامت الثورات، كتعبير مركب عن رفض الناس لما يتعرضون له من أنواع حكم مختلفة ولكنها تشترك فيما بينها فى أنها تستبد بالناس وتقهرهم. لقد أجمع كل من درس الثورات عبر التاريخ، على أن الثورات تقوم لأسباب مركبة، لم نسمع أن ثورة تقوم لأن الهوية فى خطر فقط، وإنما تقوم الثورات لأن هناك خللاً فى تركيبة السلطة الحاكمة بين قلة حاكمة وأغلبية محكومة. قد يكون هذا مقبولاً إذا ما كان هناك عدل فى توزيع الثروة والمشاركة بأى شكل فى الحكم، بيد أن إقصاء القلة للأغلبية عن حكم البلاد واحتكار القلة للثروة والموارد وترك الفتات للكثرة هو ما يثير الناس ويجعلهم يتحركون ضد أصحاب الامتيازات.. هذا هو قانون الثورات.

(3)

ولنبدأ القصة منذ أول ثورة عرفتها الخبرة الإنسانية وكان مكانها مصر. فى كتاب محمد العزب موسى «أول ثورة على الإقطاع» «مايو 1966»، يؤرخ لنا بلغة علمية ومشوقة فى آن واحد كيف قامت هذه الثورة، فمن الناحية الاجتماعية عرفت مصر «نظام الإقطاع» فى منتصف الأسرة الخامسة، أدى هذا النظام إلى انقسام مصر- بوجه عام- إلى طبقتين جامدتين هما: طبقة الأشراف وتتكون من حكام الأقاليم وكبار الموظفين وقواد الجند والكهنة وأسرهم. وطبقة عامة الشعب، كان الأشراف يورثون أولادهم ثرواتهم وألقابهم وأراضيهم، وكان عامة الشعب يورثون أبناءهم الفقر والكدح، ويذكر التاريخ كيف بدأ الناس يواجهون مجتمعاً راكداً يتحدد فيه المصير قبل المولد، وأصبح هيكل النظام الاجتماعى فى عصر الإقطاع أشبه بالهرم، ففى القاعدة توجد أغلبية الشعب الساحقة المحرومة من كل الحقوق، وفى القمة تسيطر الطبقة الحاكمة التى تتمتع بكل الامتيازات ولكنه هرم حاد الزوايا.

(4)

وكانت حياة الفلاح المصرى هى المأساة الحقيقية فى ذلك العصر، فهو يرث الشقاء عن أجداده، ولا يستطيع أن يتصرف فى مستقبله على النحو الذى يريد، ولا يستطيع أن يبرح الأرض التى ولد فيها أو يخرج عن سلطة السيد الذى نشأ فى كنفه، إنه مرتبط بالأرض كالجماد والحيوان وتابع لسيده بلا أمل فى الخلاص، ورغم أن مصر لم تعرف فى ذلك العصر، نظام الرق بمعنى الكلمة، كما كانت تعرفه روما مثلا، إلا أنها عرفت نظاما آخر مهينا للكرامة الإنسانية هو نظام التبعية. فلا يكون الفرد رقيقاً بمعنى الكلمة ولا حراً بمعنى الكلمة وإنما هو بين بين- كما يقول العزب موسى. أما الصناع وأصحاب المهن فكانوا مرتبطين بالملك ولا يستطيعون الفرار.

(5)

وتذكر بردية إيبور التى حفظت لنا تفاصيل أول ثورة على الإقطاع، (كما أوردها العزب موسى) كيف كانت هذه الثورة عنيفة ومدمرة هدمت صروح المجتمع ودكته، وقضت على السلطتين البوليسية والقضائية فى المجتمع، واكتسحت كل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة وتركت المجتمع بغير أمن لفترة. كان الملك معزولاً بحاشيته عن رعاياه، ما أدى إلى انفجار مراجل الغضب الشعبى تحت ضغط الظلم الاجتماعى والامتيازات الطبقية.

(6)

استمرت هذه الثورة لفترة يختلف حولها المؤرخون، ولكنها أنجزت إنجازاً حضارياً وتاريخياً معتبراً ويعد جذرياً فى المسار الفرعونى التقليدى، جعلته يعترف بحق الشعب فى الخلود مثل حكامه، وحقهم فى أمور كثيرة وكذلك ضرورة أن يكون الدين فى خدمة الجميع لا الحكام فقط.

إلى حديثنا الثانى عن ثورة أخرى.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern