تشير كل الكتابات حول مصر العثمانية (1517 – 1805) إلى أنها الفترة التى تبلورت فيها «إرهاصات الاستقلال» لدى المصريين. ويقول أحد الرحّالة إن «التمردات والهبّات التى تقوم بشكل متكرر تشير إلى أن ثمة ناراً خفية تنتظر الأيدى القادرة على تهييجها حتى تنقلب لهيباً»، يكون قادراً على إحداث تغييرات جذرية فى بنية المجتمع، تغييرات لا يمكن أن تتم إلا بالاستقلال، وهو ما حدث فى الفترة العثمانية.. كيف؟
يمكن القول إن مصر العثمانية كانت المرحلة «المعبر»، من مصر ما قبل الحديثة إلى مصر الحديثة، والتأكيد على «المصرنة» مقابل «العثمنة». فكل الهبّات والانتفاضات التى قام بها المصريون – التى عرضنا لها من قبل – بسبب تعسف الحكام الوافدين إلى مصر معهم من جهة، وسوء الوضع الاقتصادى من جهة أخرى، كانت كلها محاولات للتحرر من الاستبداد والاستغلال.. محاولات غير مكتملة: مجهضة مبتكرة… إلخ،
كانت تنتظر الوقت المناسب لتحقيق تغيير حاسم فى علاقات القوة بين الحاكم والمحكومين، وفى البنية الاقتصادية/الاجتماعية لمزيد من المشاركة من قبل المصريين. ويقينا نقول إن الفترة العثمانية يمكن اعتبارها الفترة التى جعلت المصريين على إدراك أنه لا يكفى التحرك طلباً للعدل الاجتماعى فقط، وإنما لابد أن يقترن هذا التحرك بتحقق الاستقلال الوطنى.
فعلى الرغم من البدايات المبهرة للدولة العثمانية، التى مكّنتها من الامتداد والاستحواذ على مراكز استراتيجية مهمة، حيث أصبح نطاقها الجيو – سياسى ممتداً من نهر الدانوب حتى الخليج الفارسى ومن أراضى الاستبس فى أوكرانيا إلى الشلال جنوب مصر (راجع محمد أنيس فى «الدولة العثمانية») – فإنها سرعان ما تدهورت أحوالها بعد أن وقعت فريسة للامتيازات الأجنبية بداية من سنة 1579، التى جعلتها فى حالة «إلحاق اقتصادى» (راجع كتابنا «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط») أضعفها بشكل بالغ. فى هذا السياق اضطر العثمانيون إلى أن يتركوا حكم مصر (من الباطن) للمماليك. وعرفت مصر نظام حكم ثلاثى العناصر يتكون من: الوالى والأوجاقات والمماليك. وأهمية هذا الأمر أن البلد قد أصبح فريسة لثلاث جهات ضريبية بدلاً من واحدة، أى لنظام ضريبى ثلاثى.
وواكب هذا الأمر الانحدار الشديد لنصيب الدولة العثمانية فى التجارة الدولية، وهو ما يترتب عليه زيادة الضرائب على الدول التابعة أكثر من هذا أنه مع ازدياد معدل التدهور باتت سياسة الباب العالى فى الأغلب استخراج أكبر ضريبة ممكنة من المصريين على اختلافهم. والنتيجة أن عانى المصريون من الكوارث والفقر (بحسب عزيز سوريال عطية). ومع صعوبة الحكم عن بعد لجأ الباب العالى إلى تطبيق سياسة «فرق تسد».
فى هذا السياق، يشير أبوسيف يوسف إلى أنه تبلورت «تطلعات قوى اجتماعية مصرية، تضم علماء وتجاراً وحرفيين وعاملين.. للاستقلال». لقد أثمرت جهود المصريين النضالية منذ الفراعنة مرورا بالفترة القبطية وبالدول الإسلامية المتعاقبة – التى أشرنا لها فى عجالة على مدى المقالات الأربع السابقة – إلى أنه لا يكفى الثورة أو التمرد على الحاكم الوافد وإنما لابد من العمل على استقلال مصر، أى ضرورة النزوع إلى الاستقلال.