«الروح الثورية جزء لا يتجزأ من الشخصية المصرية،
ولهيب الثورة مستمر دائما تحت رماد التربة المصرية»
تلخص لنا هذه العبارة لأحد المثقفين المصريين الكبار (محمد العزب موسى) قصة ثورات المصريين أو نضال أهل مصر عبر العصور ضد الظلم والقهر. هذه القصة التى حاولنا أن نقدمها للقارئ الكريم على مدى حلقات خمس منذ الفراعنة عندما قاموا بأول ثورة على الإقطاع مرورا بالتمرد الجماهيرى الفلاحى المزمن فى العصر القبطى، وثورة البشامرة العارمة وقت الدولة الطولونية زمن العباسيين، وهبات الفلاحين المتكررة فى زمن المماليك، وأخيرا الكفاح من أجل الاستقلال وتفعيل «المصرنة» فى مواجهة «العثمنة» التى لحق بدولتها الفشل منذ القرن الأول لتأسيسها بفعل الامتيازات الأجنبية،
وتم حصارها على عكس القراءة الدينية التى تتصور ما لم يحدث ولم تذكره كتب التاريخ المعتبرة. ونقف هنا عند هذا الحد تاركين الدولة الحديثة لاعتبارات عدة لدراسة تفصيلية. ولكن ما يهمنا هنا وبعد العرض التاريخى لثورات المصريين أن نشير لأهم عناصر القوة والضعف فى هذا الثورات.
ومن أهم عناصر القوة التى ميزت نضالات المصريين عبر التاريخ: أولا: أن روح الثورة والتمرد والانتفاض كانت حاضرة دوما. وثانيا كانت هذه الطاقة الثورية تتخذ أشكالا متنوعة ومبدعة فى آن واحد. وحول هذا يقول أحد المؤرخين «إن تاريخ شعبنا الطويل ليس سوى مقاومة باسلة لكل ما يمس كرامة الإنسان ويحط من قدره، وإذا كان المصريون، قد سكتوا فى بعض عصورهم على الجور والخسف فقد كان ذلك لفترات قليلة لا تقاس بالنسبة لتاريخهم الطويل ولأسباب خارجة عن إرادتهم كمرورهم بإحدى دورات الضعف والإرهاق أو اشتداد وطأة النير الاجنبى، ولكنهم لم يفقدوا حتى فى هذه الحالات روحهم الثورية المتأججة تحت الرماد فكانوا يلجأون إلى المقاومة السلمية غير المنظمة أو ينطوون على أنفسهم فى صبر عظيم منتظرين ساعة الخلاص، وعندما تحين هذه الساعة يهبون من مراقدهم كما لو كانوا فى إغفاءة قصيرة». ولا شك أن هذه الثورات كانت تتراكم مع التطور الاقتصادى والاجتماعى حتى رأينا تجلياتها المتطورة فى الدولة الحديثة.
فى المقابل، يمكن أن نضع يدنا على عناصر الضعف وأولها أن هذه الثورات كانت فى الأغلب غير مكتملة أو مبتسرة، أى غير تامة النمو. ويفسر ذلك الموسوعى العظيم لويس عوض بقوله عن تاريخ التقدم الحضارى فى تجربة مصر: «إنه فى كل ثوراتنا المتعاقبة للتقدم الحضارى بالقيم الجديدة نجد أن القديم يقوم بحكة التفاف حول الجديد ليخنقه كما يخنق الأفعوان ضحيته.. كما لو أن ثوراتنا تخاف من نفسها فتسلم لأهل القديم مراكز السلطة لتستحدث بهم القيم الجديدة وبذلك تعرض نفسها للإجهاض المستمر الذى يحفظ للقديم نضارته وسيادته،.. دون إدراك أن القديم عندنا لا يواجه الجديد، بل يلتف حوله فى وداعة ودهاء، حتى يجرده من شعر شمشون ثم يبطش به بطشا، ويعود كل شىء إلى سيرته الأولى». وبالرغم من ذلك أجمع المؤرخون على أن هذه الحركات الثورية المصرية التى جرت عبر التاريخ سواء ما نجح منها أو فشل كانت دائما تجدد حيوية المصريين والوعى المجتمعى لديهم أكثر فأكثر.
فلقد كان الإدراك المجتمعى يوماً بعد يوم وبعد كل حركة ثورية أو هبة شعبية أو انتفاضة نوعية إدراكاً يأخذ فى الاعتبار الآثار الضارة للعلاقة بين الثروة والحكم، وسوء توزيع الثروة والتمييز الحاد بين من يملك ومن لا يملك. لقد تعايش المصريون مع الاثنيات الحاكمة الوافدة والمتعاقبة، ولم يشفع التماثل الدينى فى مصر الرومانية والبيزنطية (القبطية) والإسلامية بين الحكام والمحكومين فى تحسين الأوضاع، كما أدت الخبرة الثورية إلى فهم أن المسألة الاجتماعية، وفى القلب منها المصلحة أساسا، تلعب دورا ثوريا.
وبدأ الوعى من خلال الممارسات النضالية يكشف دور الشرائح الاجتماعية الحاكمة والتى فى الأغلب «أقلية ثروية» لا تلقى تأييدا، وفى نفس الوقت أدوار الجهات المؤسسية فى المجتمع مثل: الجهاز البيروقراطى والإدارى وأنماط تحالفاته ودوره فى إعاقة التغيير، وامتناع المساواة.
وبعد.. ماذا عن مستقبل العملية الثورية؟