الثورة: تصنعها الميادين
وتقاومها الشاشات
ويجنى ثمارها محترفو الصناديق
هكذا يستهل الدكتور عماد عبداللطيف كتابه البديع «بلاغة الحرية: معارك الخطاب السياسى فى زمن الثورة»، ملخصاً مضمون الكتاب. إنه يتكلم عن 25 يناير بتجلياتها الثلاثة: الميادين، والشاشات، والصناديق. ومن خلال تحليل لغة ومضمون الخطابات السياسية التى سادت فى كل من الميدان ثم الشاشات وأثناء الحملات الانتخابية، يلخص لنا مسار الثورة من البداية وإلى نهاية الانتخابات الرئاسية.
الكتاب مقسم على طريقة المسرح الملحمى/ «البريختى». بالرغم أنه كتاب فى تحليل الخطاب السياسى ودلالاته. ومن هنا يكتسب الكتاب الحميمية والحيوية والعلمية.. وعلى طريقة الراوى فى الأعمال المسرحية يلخص لنا المؤلف الكتاب من خلال الأسطر الثلاثة التى قدمنا بها المقال. ويحافظ على هذا التقليد على مدى أقسام الكتاب الثلاثة، وصفحاته التى بلغت 250 صفحة من القطع الكبير (دار التنوير).. فنجد الراوى يطل علينا قبل الدخول فى تفاصيل كل قسم.
يستهل المؤلف تحليله لخطاب الميادين (القسم الأول من الكتاب) بهذه الكلمات:
يقول المناضل:
أعطونى ميداناً فسيحاً، وبضعة آلاف من المحتجين الحالمين، ووعياً نقدياً، أعطيكم ثورة.
وينتقل المؤلف إلى قلب «الميادين»، ليحلل ما جاء فيها من خطابات.. فيقول: «الثورات سيول التغيير. وحين ينهمر السيل، فإنه لا يجرف أمامه شخوص العهد البائد وسياساته فحسب، بل بلاغاته أيضا. وبينما تشق الثورة لنفسها مجرى جديداً، تتشكل بلاغة جديدة، فالثورات تلد بلاغاتها».. وكأن المؤلف يلفت نظرنا إلى أن اللغة تعبر عن مدى بؤسها / عمقها وهل انتهت صلاحيتها أو لم تزل فاعلة.. فالإنسان «لا يثور بسبب امتهان كرامته، أو العبث بقوت يومه فحسب، لكنه قد يثور- فى الحين نفسه- لامتهان اللغة والعبث بمعانيها. إذ غالباً ما تكون الثورة مؤشراً على أن النظام البائد قد وصل إلى أقصى حدود العبث بالكلمات. هذا العبث يتجلى ــ أولاً ــ فى وجود فجوات كبيرة بين ما تقوله اللغة (لغة السلطة الحاكمة/ الحكام) وما يوجد على أرض الواقع، حين تستغل السلطة القائمة الكلمات المعسولة فى التغنى بمنجزات وأعمال ومواقف وصفات لا تتحقق إلا على صفحات الورق أو فى رنين الألفاظ، فى حين يعكس الواقع نقيضها على الدوام»…
لقد ضاق المصريون بتغنى الأنظمة الحاكمة بالديمقراطية الزاهرة، والرخاء العميم، والعدالة الاجتماعية، الناجزة، والانحياز للضعفاء والفقراء، فاختزنوا طاقة مدهشة من الغضب على هذا العبث بالكلمات، وهم يتطلعون حولهم فلا يرون إلا حكماً متسلطاً وفقراً عميماً، وهرساً للمطحونين، وفجوة خرافية بين من يملكون كل شىء، ومن لا يملكون أى شىء.. كما ضاق المصريون من البطش اللغوى، وتشبع اللغة السياسية بالاستبداد.. وادعاء الحكام/ الآباء امتلاكهم اليقين التام والحقيقة المطلقة وهم جهلاء.
ثار الناس على الواقع الأليم. وأنتجوا خطاباً تحررياً مباشراً.. عبر «عمليات تفنيد ونقد مكثفة لخطاب السلطة القائمة».. تضمنت «كشف تناقضاته وتحيزاته، والسخرية من مغالطاته، وتعرية عمليات التلاعب والتضليل.. وإبراز المصالح الحقيقية…».. أبدع الثوار فى خطابهم بما قل ودل.. بلا وسطاء وبشتى الوسائل الحقيقية والافتراضية.. فأسسوا بلاغة الجمهور/ الناس/المواطنون وتمثلت فى:
■ التعبير عن أحداث الثورة بالجرافيتى وبشتى الفنون واستخدام الحوائط والأسفلت.
■ براعة تسميات الحشود المليونية وأيام الجمع.
ونواصل المقال القادم.