(1)
نواصل قراءتنا لكتاب الدكتور عماد عبد اللطيف «بلاغة الحرية».. وبعد أن عرضنا لخطاب الميادين الذى انطلقت منه الثورة وبلاغتها الجديدة الثورية ننتقل إلى «خطاب الشاشات»؛ وها هو يطل علينا (الراوى) مرة أخرى (لسان المؤلف) يقدم لنا القسم الثانى حول خطاب الشاشات بما يلى:
يقول الحاكم: أعدوا شاشة تلفازى، ومعسول كلماتى، ومنصة إلقاء الخطب… فها أنا قادم لأغرس فى قلوب شعبى الوهن…
(2)
كلمات تعبر عن مقاومة أخيرة ستكون فاشلة. لأن هؤلاء الحكام لم يلتقطوا بعد مضمون خطاب الميادين «بالنبوءات التحذيرية»، التى تشابه ما كان يرد فى المآسى اليونانية القديمة، محذرة رموزها من النهاية المحتومة وعدم مقاومة القدر الذى تشكله الشعوب فى الميادين. ويقول المؤلف «منذ عصفت أعاصير الثورات الشعبية بأنظمة الاستبداد العربى فى شتاتها الأخير، انطلقت عقيرة الرؤساء العرب بالخطب، عبر شاشات التلفاز، علها تقاوم المصير المحتوم. وأصبحت الخطب الرئاسية من ناحية والمظاهرات الشعبية العارمة من ناحية أخرى تمارس لعبة تنس الطاولة. فالشعوب الحالمة بالحرية والعدالة تطلق مظاهراتها النبيلة فى مواجهة الرئيس أو الملك المستبد، الذى يرد بدوره بخطبة عصماء تنثر بعض الوعود، والكثير من التهديدات والكثير جدا من الأكاذيب. فيتلقف الشعب الخطبة هازئا رافضا، ويرد بمزيد من التظاهرات والاعتصامات، فيعاود الرئيس الكرة بخُطب تحمل مزيدا من الوعود والتهديدات، وجرعة أكبر من الأكاذيب».
وتستمر لعبة تنس الطاولة حتى تبلغ مداها حتى الخطبة الأخيرة، التى إما تحمل عبارة «فهمتكم»، التى تخفى كلمة أخرى هى «متأخرا»، أو تتضمن خمسين كلمة تنهى حكما امتد لثلاثة عقود».
(3)
ويرصد لنا المؤلف كيف أن هذه الخطابات تشترك فى الكثير من السمات على الرغم من اختلاف السياقات والظروف. فهى كلها تنفى حق الشعوب فى الاحتجاج والثورة.. وتتعامل مع المحتجين على أنهم قلة عددية لا تنتمى إلى الشعب بل تحركها مصالح خاصة، أو أجندات خارجية، أو أنهم فى غير وعيهم.. خطابات تتسم بالاستعباد، وتقديس الذات وتحقير الشعوب، والكذب وتغييب الواقع، وصيغ الأوامر والنواهى الصارمة، وباليقين المطلق والمزج بين صورة الحاكم والإله، خطابات منتهية الصلاحية. يصفها المؤلف «من شباب الوعد بالديمقراطية إلى شيخوخة الاستبداد».. والتى يرصد المؤلف سماتها كما يلى:
• لغة عرجاء لا تستطيع الرقص.
• يميل إلى إطلاقها الحكام فى منتصف الليل. ذلك حيث يكون المرء مجهدا قابلا للتلقى… واتباعا لنهج هتلر… نهج يقوم على استراتيجيتين متناقضتين هما: الاستعطاف، والتهديد فى آن واحد.
(4)
إن «خطاب الشاشات» ما هو إلا صياغة لخطاب مضاد «لخطاب الميادين» لحصار الثورة.
لقد كانت الثورة فى الميادين «فورة وعى رافض، يرى إمكانيات ماضية مهدرة، وإرادة حاضرة مستلبة، وآفاق مستقبلة مظلمة؛ فيتحول إلى فعل احتجاج جذرى، يتجلى عبر الكلمة والصورة والهتاف والتشكيلات الرمزية للحشود. وفى المقابل، فإن الثورة المضادة غايتها خلق وعى زائف؛ يشوه خبرة الشعوب بماضيها، ويشوش إدراكها لحاضرها، ويشل إرادة حلمها بمستقبل أفضل. وربما أدركت الأنظمة المستبدة أن خراطيم المياه… وأدخنة القنابل…لا تصد زحفا، أو تشل عزيمة، وأن الخطب المحنكة، والإشاعات المُضببة، والإرهاب الكلامى، ربما تكون أكثر فاعلية فى كسر عجلة الثورة»…فكانت!!
ونواصل فى مقالنا القادم…