(1)
«إيه الجو القديم ده؟»؛«إيه جو الأفلام الأسود والأبيض ده؟…إلخ، تعبيرات شبابية يمكن أن تسمعها تتردد كثيرا من حولك.. من الابن لأبيه، بين الشباب وبعضهم البعض، بين الشباب وجيل الكبار عموما، أو فى معرض التعليق على أفكار تتردد فى كثير من الأروقة أو على ممارسات تتخذ فى مجالات الحياة المختلفة أو على أنماط من المعالجات تنفذ تجاه الكثير من القضايا يتم فيها اجترار الماضى بالمعنى الواسع للكلمة…وفى الواقع فإن مستخدمى هذه العبارات فى حقيقة الأمر يقومون بتسجيل موقفهم ـ ببساطة وتركيز وبصورة مباشرة ـ على ما يسمعون ويرون دون «فذلكة» وإنما بسلاسة، على أنه «ينتمى إلى زمن فات»…فما الدلالة الرمزية لما سبق؟
(2)
يعبر انتشار هذه العبارات بكثافة على أن هناك من بات يعلن يوميا وفى كل وقت أننا أبناء زمن آخر…وأن ما نسمعه ونراه ـ فى نظرنا ـ ينتمى إلى زمن قديم فقد صلاحيته ومقومات استمراريته.. وأنهم ليسوا مطالبين بتتبع نفس المسار الذى سار فيه من قبلهم.. «فالدنيا» اختلفت، وما كان غريبا فى الماضى بات مقبولا فى الحاضر…ذلك لأن الزمن غير الزمن والدنيا لم تعد هى نفس الدنيا…فلم تعد طرق التعبير عن النفس أو عن الحب أو أنماط العلاقات أو الدفاع عن الحقوق…إلخ، التى عرفناها فى الماضى…لذا نجد شباب اليوم يمارسونها بطريقتهم وينبغى التحرر من أى أحكام أخلاقية أو قيمية على طرقهم الحديثة…أو بلغة أخرى لم يعد الأمر يقع فى خانة «الصح» و«الغلط»…بالطبع هذا لا يبرر التجاوز ولكنها تضع مسؤولية علينا جميعا لتفهم الأسباب…التى ربما تكون واحدة منها الإصرار على فرض القديم بكل تفاصيله ـ «الجو القديم كله بأفلامه الأسود والأبيض» ـ كما هو على جيل تجاوز بأفكاره والتقنيات التى تتوفر لديه القديم، فيما أظن، كليا…على طريقة «القطر فاتك يا والدى» «It is too Late» (فى مسرحية الأستاذ العبقرى فؤاد المهندس فى إنها حقا عائلة محترمة ـ 1980)…وهنا بالضبط مربط الفرس، قديم يريد أن يسقط ما يعرفه فى «الزمانات» على جديد يبلور معرفة جديدة كليا…
(3)
الجيل الطالع (بحسب مسرحية العظيم نعمان عاشور ـ وبالمناسبة لماذا لا تذاع مسرحياته التى تنتمى إلى جو الأسود والأبيض ويطل علينا أسوأ ما فى الأسود والأبيض)، لم يعد الزمن القديم، زمن يعبر عنهم وعن طموحاتهم وتطلعاتهم أو ثقافتهم بشكل عام.. فى الحقيقة هو زمن لا يخصهم…
■ ذلك لأن هناك «جوا جديدا» يتشكل؛وقصة جديدة تنسج وقائعها من قبل رواة وأبطال آخرين ليست بالألوان فقط وإنما بالجرافيك والمالتيدايمنشن وغيره من التقنيات الحديثة…
(4)
الخلاصة، علينا إدراك أنه فى اللحظة التاريخية التى يُلح فيها جيل على أن يميز نفسه عمن سبقه بهذه الطريقة التى تتجاوز الأبنية والمؤسسات القديمة بنعومة شديدة ومن خلال مقولات دالة تنتشر فى لغة الحياة اليومية، فإنه يلزمنا أن نواكب العصر بأفكار وآليات مبتكرة، وإلا فالمصير المحتوم للقديم هو النهاية…وهذا هو درس التاريخ.